اتفقت حركة حماس وإسرائيل على هدنة أربعة أيام بعد وساطة قطرية وأميركية ومصرية مضنية ومعقدة تخللها الكثير من الأزمات والتوقفات والشكوك في إمكانية التوصل إليها نظرا للاضطراب والحيرة والخلاقات بين أطراف حكومة الائتلاف الإسرائيلية ، واعتراضات السفيه المعتوه بن غفير وزير الأمن الإسرائيلي الذي يستغل كونه مع حزبه الصغير “العظمة اليهودية ” النواة التي تسند الزير . ويأتي الاتفاق بعد 48 يوما من حرب طاحنة رهيبة لم تعرف لها غزة ولا إسرائيل شبيها من قبل .
وفضح إعلان إسرائيل حربا على غزة وليس عملية عسكرية هول صدمتها من اجتياح رجال القسام لمستوطنات الغلاف ومواقعه العسكرية في السابع من أكتوبر، فانتقمت من مدنيي غزة وعمرانها انتقاما رهيبا همجيا قتلت وجرحت فيه أكثر من 40 ألفا، ودمرت آلاف البيوت والمباني الخدمية خارجة عن كل ما هو مقرر في القوانين الدولية في الحرب، فجمعت بين الهزيمة العسكرية والهزيمة الأخلاقية ، وأهوى على رأسها أمواج من الإدانات والاستنكارات العالمية حتى من قوى كانت تؤيدها وتعجب بها قبل تعري عورتها العسكرية وعورتها الأخلاقية ، وكل هذا ستكون له توابع عظيمة الضرر عليها بعد توقف الحرب ، وحتما ستتوقف ، فما من حرب تدوم مهما طالت .
وحين ننظر في الاتفاق نرى أنه يميل لصالح حماس والشعب الفلسطيني ، فعدد النساء والأطفال الفلسطينيين الذين سيطلق سراحهم ثلاثة أضعاف عدد من سيطلق سراحهم من النساء والأطفال الإسرائيليين ؛ 150 مقابل 50 ، وكانت إسرائيل تصر على المساواة في العددين . وإدخال مئات الشاحنات من المساعدات الإنسانية والإغاثية والطبية والوقود إلى كل مناطق قطاع غزة من جنوبه إلى شماله كسب مهم ، فلن تقتصر المساعدات على الجنوب دون الشمال الذي تتواجد فيه القوات الإسرائيلية . ويبدو وقف حركة الطيران الإسرائيلي 6 ساعات في الشمال كسبا إسرائيليا إلا أن وقف هذه الحركة في الجنوب طوال أيام الهدنة الأربعة كسب فلسطيني يتفوق عليه كثيرا .
ad
وضمان حرية حركة الناس على شارع صلاح الدين من الشمال إلى الجنوب كسب إسرائيلي رئيسي . إسرائيل يهمها أن يتجه الناس من الشمال إلى الجنوب ، أي من المناطق التي تسيطر عليها إلى المناطق الخارجة عن سيطرتها . ولم يرد في الاتفاق أي ذكر لشارع الرشيد على البحر. وشددت إسرائيل فصفها الجوي والبري على كل قطاع غزة ليلة الخميس الذي كان مقررا أن يكون أول أيام الهدنة ، ثم عدل عنه إلى يوم الجمعة ، وتشديدها تجسد صارخ لروحها المثقلة بشهوة الانتقام لإخفاقها العسكري في السابع من أكتوبر الذي تواصل منذ ذلك اليوم حتى قال ضابط أميركي إن حماس هزمتها عسكريا ، فلم تستطع الانتصار في الشمال وفي مدينة غزة والبريج وجحر الديك ( وادي غزة ) . وإخفاقها هذا سحق كل هيبتها العسكرية أمام نفسها وأمام العالم ، وأكد لها أن انتصاراتها السابقة لم تكن لمزاياها العسكرية قدر ما هي لعيوب ونواقص الجيوش العربية التي حاربتها . ما حدث لها في قطاع غزة تحول كلي في تاريخها العسكري والوجودي نحو الانحدار والاندثار ، وتحول كلي للشعب الفلسطيني نحو الصعود والانبعاث
الوطني . وهو صعود وانبعاث سيؤازره صعود وانبعاث عربي وإسلامي ، ونشهد بشائر الاثنين في مشاغلة حزب الله للجيش الإسرائيلي في شمال فلسطين ، وفي مشاركة جماعة أنصار الله في مشاغلة تناسب وضعها الجغرافي ، وفي الموقف الحازم للرئيس طيب أردوغان من مجازر إسرائيل في غزة . كل كلمة قالها كانت من القلب ، وتعهد بإعادة إعمار غزة ، وكون هيئة من 2000 محام لرفع قضايا جنائية شاملة ضد مجازر إسرائيل تحيط بكل أنواع هذه المجازر . نحن في الحق أمام زعيم إسلامي عظيم ، وما أعظم ما في قوله : ” سقوط غزة يعني إصابة العالم الإسلامي بجرح عميق ” من شمول رؤية ، وصدق انتماء إسلامي ، وعمق تحذير لكل المسلمين مما يحدث في غزة ، ودعوة ضمنية لهم لنجدتها ، فمصيرها مصيرهم ، وهي قدمت الدرس والقدوة لهم لما يمكن أن يفعلوه بعددهم الهائل وقوتهم الهائلة . بطولة غزة ستصنع التاريخ الإسلامي المستقبلي العظيم إن أنجدها المسلمون ، وأجادوا الاقتداء بهذه البطولة ، والحروب دائما تصنع كبريات التحولات التاريخية نحو الأحسن أو نحو الأسوأ للمشتركين فيها ، وكل وفق قدراته الذاتية وأنصاره فيها ، وعجيب نادر أن تصنع مدينة تاريخا بهذه الصفة ، لكنها غزة العزة ، وتاريخها مع الغزاة يشهد أن معجزتها في هذه الحرب البعيدة كليا عن تكافئها فيها مع عدوها من حيث العدد والعتاد وكثرة الأنصار المساندين له ؛ ليست مفاجئة . إنها مدينة عزة وكبرياء وانتصار . والخوف كل الخوف أن تمحق بعض الأطراف العربية الرسمية المعادية لحماس الحصاد السياسي لانتصارها العسكري .
***
*إن هذا العصر اليهودي وهم = سوف ينهار إن ملكنا اليقينا ” . نزار قباني .
كاتب فلسطيني