التقاعد، اشترِ ثياباً مريحة..غسان زقطان

الإثنين 28 أغسطس 2023 11:00 ص / بتوقيت القدس +2GMT
التقاعد، اشترِ ثياباً مريحة..غسان زقطان




قبل عقد ونصف العقد، أقل أو أكثر قليلاً، حصلت على التقاعد المبكر من الوظيفة الحكومية. كان آخر موقع عملت فيه هو مستشار وزارة الثقافة. أصدقائي يعرفون أنني كنت أخطط لهذا القرار قبل ذلك بسنوات، لم يكن الأمر معقداً، حصلت على موافقة سريعة من الوزيرة، وسارت الإجراءات بسلاسة، استمارة براءة الذمة كانت فارغة تقريباً، إذ لم أمتلك سيارة حكومية طوال خدمتي أو مصاريف تنقل أو "بونات" بنزين أو هاتف خاص. كنت أتحرك بسيارتي وأتحدث من هاتفي، كان لدي جواز سفر دبلوماسي وقد استعادته السلطة.
كانت تلك خطوة كبيرة وتبدو من هنا صائبة وحكيمة، عملت لفترة بدوام جزئي شبه حر مع مؤسسة التعاون، كانت فترة مثمرة استطعت خلالها استعادة الشعور بإمكانية التغيير، إلى جانب عملي في "الأيام" الذي بدأ مع صدور عددها الأول، وهو عمل قريب إلى قلبي بحيث تبدو العلاقة مع الجريدة وزملاء العمل، إلى جانب مهنيتها، عاطفية خلقت عالماً طيباً من الأصدقاء.
عملياً تفرغت للكتابة وكان هذا صائباً رغم أنني أفكر الآن أنه كان متأخراً بعض الشيء.
في تعريف التقاعد هو مكافأة مستحقة لعمل طويل، جزء من مكتسبات سعت أجيال لتكريسها في مواجهة أرباب العمل وتسلطهم والوظيفة وروتينها، مكون رئيس في مدونة الحقوق، منطقة راحة وبداية وخيارات جديدة. ولكن يبدو أن الأمر يأخذ أحياناً منحى مغايراً، إذ يبدو وكأنه نوع من العقوبة وسوء الحظ، أو مستوى من التخلي الرسمي عن الشخص ومكانته، وبالتالي خسارة حصانته الاجتماعية التي وفرتها له الوظيفة الحكومية بشقَّيها الأمان المعيشي النسبي، والسلطة.
يمكن تذكر شخصية المتقاعد في الأفلام المصرية كمصدر لهذه الثقافة، واستحضار المشهد ومكوناته، الموظف بقيافته كاملة على مائدة المقهى الشعبي، وذكرياته التي تكتسب تفاصيل جديدة كل مرة، الذكريات التي تستحضر زمناً حقيقياً لم يعد موجوداً، الزمن الذي اختفى بمجرد مغادرته مكتبه، بينما الصحيفة اليومية مطوية بعناية كشاهد صامت على ذلك الزمن، أظن أن جانباً من الثقافة المشوهة حول التقاعد جاءت من هنا.
أتذكر ذلك بينما أتابع أخبار إحالة عدد من سفرائنا وموظفينا ممن تجاوزوا السن القانونية على التقاعد، لا أدري تفاصيل الخبر وعدد السفراء أو الموظفين، ولكن مجرى الحديث والمبالغة في توريته يجعل منه خبراً، في النهاية مثل هذا القرار ليس حدثاً، هو آلية، هكذا ينبغي أن تحدث الأمور، لقد أنجزت عملك ووصلت إلى السن التي تستحق فيها الراحة والشروع في بدايات جديدة، اذهب إلى بيتك وتفقد حاكورتك ونباتاتك، اكتب مذكراتك، احتفل بأحفادك.. اقرأ، اذهب في رحلة، اشتر ثياباً خفيفة ومريحة.. هناك الكثير في هذه الحياة ينتظر أن تفعله.