يا زريف الطول طال غيابك وشاب الرأس من بعدك.. أنشودة الثورة التي ستعيد الولادة الجديدة!

الأحد 25 ديسمبر 2022 11:20 ص / بتوقيت القدس +2GMT
يا زريف الطول طال غيابك وشاب الرأس من بعدك.. أنشودة الثورة التي ستعيد الولادة الجديدة!



كتب خالد شحام:

مساء الأمس وفي مزرعة غير ذات زرع  وبرد يتسلل تحت الجلد، كنت مدعوا لحفل زفاف لكائن ما في زمان العبث ، مضيفي ألحّ في دعوته لحفل زفاف ابنه حيث توجب حضوري بمشاعر روبوتية خالصة ومباركات بلاستيكية ملونة بألوان فاترة ، جرت العادة أن مثل هذه المناسبات على الرغم من القشور التي تحوطها وتكللها بالفرحة والبهجة تحولت إلى احتفاليات لمزيد من الانحطاط الذي نكرسه كثقافة معيشية بعيدة عن الأصول والجذور ، كل تفاصيل احتفالاتنا في زمن الهزيمة تتكرس لتصبح مظهرا من مظاهر الانحطاط المحدث المغطى بكريما العصر ويخفي تحته هزائم مريرة تُرصَد في صحف الغيب كأشكال من الردة، وصلة الغناء الأولى كانت بمثابة جعير كارثي يسمى طربا ولا تتعدى وصف الردح والبهدلة إلى الدرجة التي تريد فيها أن تخفي وجهك بين يديك، المفاجأة التالية  التي كانت حاضرة وفاجأتني شخصيا وأصبحت شيئا نادرا هي  أن فقرة من الزجل الشعبي الفلسطيني كانت حاضرة  ثم اندفعت في الهواء أنشودة (يا زريف الطول) لتعيد بعث الحسابات فورا وكأنها أيقظت شيئا نائما في داخلي ربما منذ سنين بعيدة .
في زمان ما كانت المرة الأولى التي أسمع فيها أنشودة يا زريف الطول في تونس تحديدا في زمان ذي زرع ، ، كانت مكبرات الصوت تطرق الأرض بوقع النغمات المصاحبة لكلمات الأنشودة المنهمرة مثل تيار من هواء ساخن يحملك بصحبته الخفيفة نحو الأعلى ، شئت أم أبيت ستجد أن قلبك يخفق بشدة وتكاد بالكاد تمسك عليه  ألما وحسرة لأنك تعلم ان فلسطين تذرف دمعة كلما تحررت تلك الأنشودة أو انبعث ذلك اللحن الثوري ، هذه الكلمات النارية المدقوقة بجسد اللحن ترسل في روحك رائحة أرض فلسطين ويتوهج في ذاكرتك  البرتقال الفلسطيني وتعيد تشكيل اللوحة التي كان فيها جدك و والدك يجوبان سهل السنابل ويتبركان من اللون الأخضر في محيط من السلام والمحبة ورضى الله ورضى الأرض ، إنها مزيج من صور وكلمات  تستحضر شيئا فقدته وعزيزا على قلبك لم تره منذ أمد طويل ووعدا لم يتخل عنك ولم تتخل عنه .
دقائق قليلة  يشد  احدهم بيدك ليدعوك  ، وحين يرتفع ايقاع الرنين الخفيض في دقات قلبك تجد لا شعوريا بأن ساقيك تريدان ممارسة شيء يسمى الدبكة في العرف الفلسطيني وعُرف بلاد الشام ، الدبكة هي أن تكتف ذراعيك بذراعين لمن يجاورك ثم ترفع قدمك وتدق بها الأرض في ايقاعات منتظمة تتوازى مع ايقاعات الهدير في قلب الأغنية الذي يدق في حجيرات قلبك مثل الرعد الهادر ، دقائق أخرى وتجد نفسك في سيمفونية من الحدث الفلسطيني بجدارة حيث تتراكب الأكتف والأذرع لتتكلم لغة خاصة بها وتدك الأرض بالقدم الواحدة  بتردد أقل من  1 هيرتز في تناغم عجيب لتسمع الأرض وهي تهتز وتثبت بأن القدم الفلسطينية  قادرة على هز الأرض وزلزلة  من عليها وبعث الحياة فيها من جديد .
إنه ليس رقصا ولا طربا ولا مستوى من الفرحة الزائدة عن الحاجة إنها استعراض للروح وللفكرة الثورية المقيمة  داخل هذا الرأس الذي يكاد يصبح القنبلة ، إنها هي كلمات الأرض التي تمنح قدمك القدرة على الدَك وتصعيد الغبار ، إنها استعراض لروح الثورة التي تريد أن تتحرر وتحاول ترويض نفسها في هيئة أداء راقص لكلمات ذات فتيل قابل للاشتعال وكلمات لها مفعول رزمة من ديناميت فلسطيني ينسف الاسمنت والحواجز و يفل الحديد .

الدبكة الفلسطينية ليست طقسا وطنيا ولا فلوكلوريا يعقد في يوم عرس أو فرح لعائلة من أبناء فلسطين أو الشام، إنها طقس يستعان به في مواسم الحصاد للقمح والزيتون  وبركات الأرض  حيث يتم تتويج الحصاد الموسمي بدبكة تعلن الفوز بحب الأرض ونجاح العطاء والولادة الجديدة للمحصول المقدس، في أحيان اخرى تكون هذه الدبكة رسالة تحد واستعراض للرجولة المقيمة في بلادنا في فلسطين والأردن وسوريا ولبنان والعراق  لتقول ما لا تحكيه الكلمات ، في بعض الأحيان تكون هذه الدبكة صاخبة جدا  وتحمل حزاما  يليق بمقام عمالقة التاريخ وسادة الأماكن والأزمان الذين يدكون الدكة الصحيحة في المكان الصحيح ليتحول الفلسطيني إلى صانع للتاريخ .
في فترة ما من الزمان المرصع بالضياع وبريق النجوم الفائقات كانت أناشيد الثورة الفلسطينية تنير جنبات الطريق في الحياة ، كانت  ُتبَث في أثير ضيق وتنتشر بين أبناء فلسطين لتكون الموجه والمرشد للأجيال الناشئة وتحمل روح الثورة من جيل لآخر ، تأكدت جيدا من مدى عمق وقوة هذه الأناشيد  في زيارة للصين الشعبية بالذات حيث شاهدت الأطفال ينشدون المجد لبلادهم كجزء من طقوس الصباح المدرسية لتكريس الوطنية وحب البلاد وإمداد الروح بالطاقة اللازمة ، عندما أدرك أعداء فلسطين خطورة مثل هذه الأيقونات الصغيرة عليهم وثقلها في وجدان الجيل كان من الضروري تشليحها وهدمها وتحويلها إلى مسخرة ومدعاة للضحك على الذات  والتندر بُعَيد السقوط الكبير ، وتمكن كبير أوسلو الذي علمهم سحر التنسيق بحنكته وميوله السَلامية والحمامية  من تحويل هذه الأناشيد إلى جزء من البامية المحنطة التي تعلقها منظمة التحرير في صدر مكاتبها كأيقونة للعودة إلى طقوس التنشيف الصيفي من أجل البيات الشتوي، وفي ذات الوقت كان لا يزال وهج الأنشودة الخالدة يتقد من تحت سنوات الهزيمة حيث حسبناه لن يعود أبدا وما كانوا له من الغالبين .
كانت الحرب على الأنشودة الفلسطينية و الأغنية العربية  الثورية جزءا من الحرب على الوعي  لأنها كانت عقيدة نضالية يمكن ان تجدد وتلهب وجدان الفرد والشعب والأمة خلال دقائق قليلة ، وبالتالي فالهجمة عليها هي  جزء من برنامج الهجمة على الوجدان لتشليحه من وجدانه وتحويله الى مجرد قطعة  ديكور من الجبص الإنساني المفرغ من محتواه لتزين القلب الأجوف، وبمجرد أن يموت وجدان الأمة يمكنك أن تفعل بها ما تشاء من قتل واغتصاب وسرقة واذلال ولن  يحرك أحد رمشه أو يشعر بجرحه لأن  الجبص لا حياة فيه والأناشيد أصبحت خبزا وكهرباء  وفاتورة هاتف وسيارة وشقة للسكن ومرتبا يسمح لك بالمعيش مثل القوراض .
في داخل فضاء أنشودة الثورة الفلسطينية جاءت النشيدة أولا  كي تكون فلسطين معنى  للوطن العربي وكرامته المسلوبة، وفي الثانية تقول النار: هذه هي أكتافي حَمّل فوقها جبال وبهذا القدم الحافي اطحن شوك الدرب! وفي الثالثة اغرس يراعك في دمي فقال الشيخ بلا دموع وبلا أنين من الحنايا والضلوع  ولدي شهيد !
وهكذا في الأنشودة الخالدة الأولى جُعِلت  فلسطين غاية المنتهى وفي الثانية وهبتك الأنشودة حياة البطولة والخلود  لكي تذهب وتحقق برهان فلسطينيتك وعروبتك ، وفي الثالثة زرعت في وجدانك العلاقة الرمزية الخالدة بين ابن فلسطين والكلاشينكوف الذي يصبح عضوا قسريا من جسدك غير قابل للبتر أو الانفكاك  وبهذا  تتلاقى معاني هذه الأناشيد لتضع في روحك عشقا أبديا وثورة لا تنتهي حتى لو ترمد جسدك وتناثر فضاؤك ، عندما تتفكر في الروح التي تذروها أنشودة الثورة الفلسطينية داخل البحر المضطرب في وجدانك ستجد نفسك تماما أمام السلاح الحقيقي الذي يواجه الروح البن غفيرية ويحولها إلى قزم صغير ثم يدوس عليها ، وعندما تعتنق هذه الروح  وتصبح هي جزء منك وأنت جزء منها ستتطور في قمة الرئيسيات وتنقلب مناضلا فلسطينيا من الطراز الأول  من غزة أو جنين أو الخليل  أو نابلس يقف مثل الجبل أمام الحركة النتانياهوية الصهيونية وعصابة المتشددين الذين يجمعهم حوله  وكل مشتقاتهم العربية والغربية ، هذه الروح التي جيء بجماعة أوسلو لقتلها وتحويلها ألى أبله يحمل غصن زيتون جاف ويحمل لافتة مكتوب عليها أننا نريد السلام!
بالأمس فقط وبالخفاء من مضيفي وفوضى المكان تمكنت دمعتان سريتان من التسلل بصحبة الأنشودة وأخفيتهما بمهارة  !  دموع تتولد من أقصى ألام قلبك وأعمق حجيرات الشوق  الذي ركد مع دفن الأنشودة قبل ثلاثين عاما  ، دموع على زريف الطول الذي اعتقلوه وقتلوه بالهراوات  ثم هَجّروه وعلموه أن يحب كندا أو رومانيا  ويسافر لأجل شقراء روسية  أوفاتنة  أوكرانية  لكنه عاد إليهم بعد سنتين بمخطط لعمليتين فَـذّتين  لأن العشق لوعه ، سننتظر عودتك لأننا نعلم أنك ستعود وتحرر أيدينا  مرة أخرى وتطلق سراح شهدائنا وأسرانا  وسنمارس الدبكة الأخيرة معا  قرب محصول القمح الكوني مرة أخرى ، ومرة  ثانية في عرسك الذي تترقبه وتشتهيه كل صبايا المدن اللواتي فتنهن هدير رجولتك وضرباتك التي أثارت إعجاب الأنبياء ، دموع على الكلاشينكوف الذي كان صوته في العالي وحولوه إلى كاتم الصوت الذي قتلنا جميعا  ولكنه خُلِق ليعود لحنا مقدسا  يضحك صداه في السهل والبيارة والجبل وحول شجرة التين الخالدة ويعيد إشعال انشودة الثورة التي يتساقط منها الفدائيون مثل المطر  ، كلها كانت تتزاحم في الوجدان مثل شهاب  منهمر وايقاع يحرك فيك هرمونات تقسم بانها تتفجر لأول مرة .
أنشودة الثورة الفلسطينية لم تمت أبدا ! لقد صنعت كتائب الأقصى وأوقدت كتائب القسام ، بل هي الان تصنع عرائن الأسود وطيور النار المقدسة التي تتساقط من السماء  ومن بعدهم ستصنع كتائب النار وحمـاة القدس وكتائب الحرية  للعرب أجمعين  !
كاتب عربي فلسطيني