تعهد رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، أفيف كوخافي، لدى توليه المنصب، بداية العام 2019، بأن يجعل الجيش "فتاكا" أكثر، بمعنى أن يكون مسببا للموت. وكانت هذه المرة الأولى التي يتعهد فيها رئيس أركان الجيش الإسرائيلي صراحة بجعل الجيش قاتلا. وسعى كوخافي إلى تنفيذ ذلك خلال ولايته، التي تنتهي منتصف كانون الثانية/يناير المقبل. وتوصف عقيدته هذه بأنها إرثه، وفقا للباحث في السياسة العامة وعلم الاجتماع السياسي في الجامعة المفتوحة، بروفيسور ياغيل ليفي، في مجلة "تيلم".
وأصرّ كوخافي على هذه العقيدة رغم الانتقادات التي وجهت له. وأعلن لدى استعراضه لخطة الجيش المتعددة السنوات، تحت تسمية "تنوفا" (قوة دافعة)، في شباط/فبراير 2020، أنه "في صلب مفهوم الخطة المتعددة السنوات، تعظيم قوة الفتك من حيث الحجم والدقة".
وقال كوخافي ضباط لواء المظليين في نهاية تدريب، في آب/أغسطس 2020، إنه "في نهاية أي مرحلة من الحرب، ينبغي التدقيق في حجم العدو والأهداف التي أبيدت، وليس في احتلال منطقة وحسب".
وحاول كوخافي تطبيق عقيدته هذه خلال العدوان على غزة في العام 2014. في حينه، دفع كوخافي مناورة تضليلية تهدف إلى جعل مقاتلي حماس يدخلون إلى أنفاق في غزة وبعد ذلك قصف الأنفاق من الجو، بهدف قتل عشرات المقاتلين الفلسطينيين أو أكثر. وتعالت شكوك في قيادة الجيش حيال فائدة هذه المناورة من الناحية العسكرية، ووُصفت بأنها حققت نجاحا جزئيا، لأنه استشهد فيها ما بين 20 إلى 30 مقاتلا.
واستمرارا لعقيدته، هدد كوخافي بقتل مدنيين لبنانيين، خلال خطاب ألقاه في حزيران/ يونيو الماضي: "أنصحكم بالمغادرة حتى قبل إطلاق الرصاصة الأولى، لأن قوة الهجوم سيكون أمرا لم ترونه من قبل".
ويتبنى كوخافي عقيدة "تكتيك القتل"، وفق ما وصفها الباحث الإسرائيلي أيال وايزمان. وفي تحليله للمعركة التي سيطر فيها لواء المظليين بقيادة كوخافي على مخيم بلاطة في نابلس، أثناء عملية "السور الواقي" العسكرية لاجتياح الضفة الغربية، عام 2002، شدد وايزمان على أن كوخافي ركّز على "قتل المقاتلين الفلسطينيين ومنعهم من الهرب".
ورأى وايزمان أن "تكتيك القتل" يغيّر أهداف الحرب التقليدية: "لا يقتل الجيش جنود العدو بهدف السيطرة على منطقة إستراتيجية يتواجدون فيها، وإنما يسيطر مؤقتا على منطقة إستراتيجية من أجل قتل أعدائه. والقتل هو ليس نتيجة لاجتياح وإنما هدف الاجتياح". وأشار ليفي إلى أن كوخافي وصل إلى منصب رئيس أركان الجيش حاملا هذه العقيدة.
وشدد ليفي على أنه "من دون التخفيف من مسؤولية كوخافي، فإنه لم يعمل في فراغ. ولذلك، من الصواب التوقف عند اللقاء بين القيم المميزة التي أحضرها كوخافي وبين الاتجاهات البارزة في الثقافة السياسية الإسرائيلية، وفي مقدمتها أداء الجيش في ظروف الجمود السياسي، والأثر الذي تركته قضية إليئور أزاريا"، الجندي الذي أعدم الشاب عبد الفتاح الشريف في الخليل بعد إصابته بجروح حرجة ولم يكن قدرا على الحركة.
دور الجيش الإسرائيلي في ظل الجمود السياسي
يسود جمود سياسي بين إسرائيل والفلسطينيين منذ عودة بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة، في العام 2009، بهدف منع قيام دولة فلسطينية. ورأى ليفي أنه نتيجة لذلك، جرت إعادة بلورة دور الجيش الإسرائيلي. "وعموما، يتعين على الجيش منح حرية عمل للسياسيين كي يتوصلوا إلى تسوية، وضمان ألا يكتسب خصوم إسرائيل تفوقا يقيد في المستقبل قدرة السياسيين على المساومة".
وعندما لا يكون هناك هدفا سياسيا أو لا يكون واضحا، فإن "السياسي يتحول إلى عسكري، ويكتسب الجيش قوة زائدة. وفي ظروف كهذه، لا ينحصر دور الجيش بتحقيق مكاسب قصيرة المدى. ومهمته هي جعل الهدف السياسي غير ضروري من خلال تنمية القناعة بأنه بالإمكان إزالة تهديدات بواسطة القوة العسكرية. وبكلمة أخرى، دور الجيش هو منح شرعية للجمود السياسي أيضا".
ودعا ضباط في مقالات نشروها في دورية يصدرها الجيش الإسرائيلي، العام الماضي، إلى الانتقال إلى توجه عسكري يقضي بـ"بسلب قدرات إطلاق النار من العدو"، بتدمير منصات إطلاق الصواريخ والمقذوفات – في غزة ولبنان - من خلال استغلال التفوق العسكري الإسرائيلي المتمثل بالدمج بين قوة النيران والاستخبارات.
وأشار ليفي إلى أنه بالإمكان النظر إلى ذلك على أنه خطوة تنفي الحاجة إلى حل سياسي، "بمجرد تحويل الصراع الإسرائيلي – العربي من صراع سياسي إلى صراع بين أنظمة أسلحة... وهذا يضمن لنا قتالا لا نهاية له. وتكرر مصطلح ’الفتك’ في هذه المقالات".
ويساعد الجيش بهذا الشكل في تقليص احتمال تعالي دعوات سياسية، تحاول تقويض الوضع الراهن، بسبب نشوء وضع لا حل عسكريا له. وأضاف ليفي أن "التعهد بحل عسكري يشجع على خطاب الفتك لأنه يشجع خطابا يشدد على القدرة التكنولوجية للجيش، كبديل للجم والتركيز على الدفاع وتحقيق غايات متواضعة ومؤقتة. واستخلص قادة الجيش في هذا السياق الدروس من فترات تحدثوا فيها عن قيود القوة في حل مشاكل سياسية معقدة، لدرجة أنه تم التنديد بالجيش كـ’يساري’".
وبذلك، تابع ليفي، "لم يعد بإمكان الجيش الاكتفاء باستهداف موارد العدو من أجل الردع وكسب الوقت – مثلما فعل في حرب لبنان الثانية – وإنما هو ملزم بـ’سلب قدرات إطلاق النار’، وهذا الأمر يستوجب القتل بشكل واسع. وفي هذا السياق، صرح قائد فرقة هضبة الجولان العسكرية، العميد رومان غوفمان، في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بأنه ’في الحرب مع حزب الله سنتقدم ونقتلهم، حتى آخر عنصر فيهم’".
مكانة الجيش بين السياسيين
في وضع يرفض فيه السياسيون حلا سياسيا، فإنه يشجع خطابا عسكريا من هذا القبيل، والجيش يقدم "خدمة لشرعنة" المستوى السياسي، وهذه ليست خدمة مجانية وإنما يحقق من خلالها مكسبين، وفقا لليفي: المكسب الأول، أن الخطاب السياسي حول الصراع الإسرائيلي – العربي بات خطابا عسكريا، وبذلك "تتعاظم مكانة الجيش وتعلق السياسيين به". والمكسب الثاني، هو أن السعي للفتك يُترجم إلى موارد، بزيادة ميزانية الأمن بشكل دائم في السنوات الأخيرة، وبلغت هذه الزيادة 15% في السنة الحالية.
وكان رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق، غادي آيزنكوت، قد استخدم مصطلح "الفتك" أيضا، في وثيقة "إستراتيجية الجيش الإسرائيلي"، في العام 2015. وجاء فيها أن "بناء القوة العسكرية سيركز على الفتك والتنقل وصمود القوة".
إلا أن ليفي أشار إلى فروق بين العقيدة التي طرحها آيزنكوت وتلك التي يطرحها كوخافي وضباط كبار حاليين. والفرق الأول هو أن آيزنكوت لا يركز في وثيقته على "الفتك"، وإنما تُرسي وثيقته مبادئ تقليدية لتفعيل القوة العسكرية وبضمنها الردع، بينما يدعو كوخافي إلى إهمال هذه الناحية. وفرق آخر هو أن في وثيقة آيزنكوت لم يترجم "الفتك" إلى "تكتيك القتل". ورأى الباحث أنه "من أجل حدوث ذلك، ثمة حاجة إلى حدث مؤسس على شكل قضية أزاريا".
ولم يتوقع قادة الجيش أن يثير سجن أزاريا الرأي العام، إذ أظهر استطلاع، عام 2016، أن نصف المستطلعين من "اليمين الصلب" يعتبرون أنه لا يوجد تجانس بين قيم القيادة العليا للجيش وقيم الجمهور، الذي أيد إعدام الشاب الفلسطيني الجريح. وعكس ذلك شرخا بين الجيش واليمين، الذي يرفد قوى بشرية إلى قوات الجيش وحرس الحدود في الضفة وغزة. وإثر ذلك، غيرت هيئة الأركان العامة بقيادة آيزنكوت خطابها ضد أزاريا.
وأضاف ليفي أنه بشكل غير مسبوق، بدأ المتحدثون باسم الجيش يتباهون بالقتل الواسع الذي ينفذه جنود ضد الفلسطينيين. "والمقارنة مع الوضع السابق توضح التحول الحاصل. فقد تميزت ’انتفاضة الأفراد في الضفة، في العامين 2015 – 2016، بلجم الجيش، بهدف منع تطورها إلى مواجهة إسرائيلية – فلسطينية شاملة. والجيش فكّر حينها بمصطلحات سياسية، والامتناع عن الفتك".
وغاب التباهي باللجم بعد قضية أزاريا، وفقا لليفي. "وتعداد القتلى (الفلسطينيين) صًوّر على أنه إنجاز في السياسة الإسرائيلية". ففي الفترة التي تلت "انتفاضة الأفراد" تزايد عدد الشهداء الفلسطينيين، وبلغ عددهم 183 شهيدا، بينهم 35 طفلا، سقطوا في مسيرات العودة عند الشريط الأمني المحيط بقطاع غزة، حتى نهاية العام 2018. "وبعد عدة أشهر بدأ كوخافي ولايته في رئاسة أركان الجيش و’الفتك’ بدأ ينغرس في الخطاب العسكري والحوار مع الجمهور".
وإثر ذلك، أظهر استطلاع نشره "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، عام 2019، أن نسبة الذين يعتقدون أن قيم القيادة العسكرية قريبة من قيم الجمهور بشكل عام ارتفعت من 49% في العام 2016 إلى 71% في العام 2019، وذلك من دون فرق جوهري بين انتماء المستطلعين للمعسكرات السياسية.
ولفت ليفي إلى أنه "ليس مستغربا أنه عندما تطورت انتفاضة أفراد في الضفة، العام الحالي، لم يلجم الجيش بقيادة كوخافي المستوى السياسي مثلما فعل سلفه. بل على العكس، فقد سهّل الجيش تعليمات إطلاق النار وسمح بإطلاق النار على الذين فلسطينيين بعد أن ألقوا حجارة أو زجاجات حارقة، أي من دون أن يكونوا يشكلون خطرا".
وشدد على أن "الفتك" لم يعد ميزة سلبية في ولاية كوخافي. "وإنما الفتك هو القيمة التي ينبغي السعي إليها دون تردد في بلورة طبيعة الجيش. والجيش بقيادته حصل على دعم الوسط – يسار لأنه منحه شرعية سياسية لتجميد حل الصراع الإسرائيلي – العربي، وحصل مجددا على ثقة اليمين، الذي يتزايد تطرفا وعنصرية".
ولخص كوخافي تنفيذ عقيدته في خطاب، في أيلول/سبتمبر الماضي: "المفهوم (العسكري) وتطبيقه يعبران عن مبدأ مركزي وهو تصنيع الإبادة الدقيق بعمليات اجتياح وإطلاق نار تشارك فيها قوات مختلفة". وخلص ليفي إلى أن تعبير ’تصنيع الإبادة’ مزعج في أوروبا، لكن في إسرائيل العام 2022 لم يجذب انتباها حتى. والفتك، وربما تصنيعه أيضا، هو الإرث الثقافي الذي يتركه كوخافي وراءه".