لم يفارقني ذلك الإحساس المدهش منذ منحت، كطفل متحمس، شرف المساعدة في رشّ الكلس الأبيض على خطوط ملعب مخيم الكرامة للاجئين الفلسطينيين شرق نهر الأردن.
كان الملعب أشبه بفناء خلفي واسع لمبنى النادي وغرفه الطينية.. أرض مستوية لا تتمتع بالقياسات المتعارف عليها في ملاعب كرة القدم، ولكنها كانت كافية، بعد تنظيفها، لتصبح ملعباً لفتيان المخيم الأكثر حماسة ولبعض المتطوعين من الأطفال في نهاية العام الدراسي.
أظن أن الأمر بدأ هناك، وأنا أنحني فوق الخطوط التي بهّتها الزمن والاستخدام والأقدام العارية والغبار الذي تدفعه رياح الخماسين قبل وصول الصيف كاملاً، كانت مهمتي حمل كيس الكلس الهش وتغطية الأثر الباهت للخطوط تحت شمس الغور القائظة، بينما يلمع البحر الميت من بعيد مثل مرآة نحاس هائلة.
كان الأمر يشبه بعث كائن هائل وأليف من النسيان.
هكذا بدا المشهد عندما رفعت ظهري بكيس فارغ، ورأيت اكتمال الخطوط التي بيّضها الكلس.
سيبقى ذلك البياض الذي غطى يدي ووجهي ناصعاً، وتبقى تلك الوهلة بدهشتها خضراء ولن يمحوها الزمن.
لم أنجح في تجاوز مرتبة لاعب في أي فريق كرة قدم أبعد من المحيط الذي أعيش فيه، الحارة أو الصف. ولكنها، رغم حدودها الضيقة، كانت مرتبة تؤمّن موقعاً في ذلك المحيط، وتغلق ثغرات كثيرة وتشتمل على حق متفق عليه بالمغفرة.
سعيت طويلاً فيما بعد لتجاوز ذلك الحاجز والذهاب أبعد، فريق المدرسة أو فريق النادي، دون جدوى. كنت دائماً قريباً من ملامسة الحافة ولكن ليس قرباً كافياً للتمسك بها بيدين واثقتين، ولا أحتسب اختياري، مرة وحيدة، كحارس مرمى لفريق الكلية، بعد سنوات، إنجازاً؛ إذ كان بسبب إصابة الحارس الأساسي قبل افتتاح الدوري بأيام، وضيق وقت المدرب الذي وجدني مع أحلامي كاملة أمام عينيه، بالضبط أمام عينيه مع ابتسامة ملاك.
فيما بعد، عندما أخذت علاقتي بالشعر منحى جدياً، سأحاول المقارنة بين جمهور الشعر المصغي والمتطلب، الذي يحاول أن يضع بدوره خطوطاً للنص في مخيلته، والقياس على النص المحمول على صوت الشاعر، ثم تحويل الأمر إلى خبرة شخصية تتداخل فيها النبرة والموسيقى واللغة، وسأجد تلك المناطق المشتركة بين الجمهورَين في نزعة التلقي نفسها، في البحث عن المهارة التي تتحول في مستوياتها العليا إلى ارتجال: الارتجال الذي يصعد بالمهارة درجات فوق السائد والمتداول.
كنت دائماً خارج تلك الخطوط المدهشة، خارج المستطيل وسحره واللحظة التي يتحول فيها إلى بساط طائر بعد صافرة الحكم، ولكنني من زاويتي البعيدة كنت كل اللاعبين، لم أكن أتابع اللعب بقدر ما أتقمص مالك الكرة، كنت كل لاعب على حدة، كنت الكرة أيضاً.
سأخرج من تلك المحاكاة وسأكتشف جمالية الحركة واختلافها بين لاعب وآخر، والاستمتاع بمهاراتهم واختلافها، تكوين الجسد وهو يعدو بقدمين مبصرتين، الارتقاء الساحر والهبوط المرن على مخدة من الهواء، رسم الممرات ودفع الكرة نحوها، اهتزاز الشبكة واندفاع الصيحة.
الطريقة التي يتلقى بها اللاعب الكرة، امتصاص اندفاعها وترويض انفعالها فيما يشبه احتضان عدوانيتها، ترويضها وكتمها، ظهور الثقة بينهما وإدارتها، سأتتبع اللاعب الآن، اللاعب في تصرف جسده الذي يصبح شريكاً وليس أداة، جسد يجتهد ويسعى ويرتجل، ببساطة سأكتشف متعة الفرجة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* جزء من مشاركتي في كتاب "سحر كرة القدم"، من إعداد وتحرير معن البياري. صدر مؤخراً عن المركز العربي للأبحاث و"العربي الجديد" في العاصمة القطرية الدوحة.