-1-
يبدو أن الحالة العربية من حيث التردي والتفكك وتطاول الآخر على الأمة قد وصلت حد القاع، و نأمل أن يشكل ذلك ردة فعل تتمثل ببوادر صحوة عربية. فالحال العربي الراهن لا يمكن له أن يواجه هذا الوضع المُغرق بالتدهور ، بأدوات المعطيات القائمة حاليا ، والتي تتجسد بذلك التباعد غير المبرر ما بين أقطارنا، واتخاذ سياسات قطرية، ثبت عملياً و بالوقائع و الأحداث طوال الثلاثين عاماً الماضية أنها غير قادرة لا على التأثير الإيجابي بالحالة العربية بشكل عام ولا الحالة القطرية لبلداننا بشكل خاص .
ولنأخذ المعطيات على الأرض، فإسرائيل على مشارف تشكيل حكومة تمثل أقصى اليمين الصهيوني ، وهي عمليا “داعش يهودي ” تقلب كل الطاولات وتبعثر ما تبقى من أوراق خاصة بعملية السلام. وأن هناك تهديد واضح ومباشر من أقطاب الحكومة القادمة والقريبة ، بأن إسرائيل تفكر بإعادة احتلال الضفة الغربية مجددا و تقنين التقاسم المكاني و الزماني في الأقصى ، بل التطاول ومن أقطاب هذه الحكومة على الأردن المجاور، حيث يصف واحد منهم ، الأردن بأنه ” صحراء أرض إسرائيل” !، و أن الأردن هو جزء لا يتجزأ من وعد بلفور ! . لكن ذلك يُقابل بمقاومة فلسطينية بطلة نوعية ،بطبعة جديدة يقودها جيل الألفية الثانية، فالفلسطينيون يحققون في الميدان القاعدة التي تقول بأن لكل فعل رد فعل مساو له في القيمة. إلا أننا يجب أن لا نظلم الشعب الفلسطيني و نلقي بثقل قضية بحجم القضية الفلسطينية على كاهله وحده ..
و على جبهة أخرى نجد أن إيران تحاول التمدد وتحقيق طموحاتها على حساب أكثر من بلد عربي، من حيث السيطرة على الأرض أو الموارد أو مصادرة القرار السياسي، وعلى نفس الشاكلة تركيا التي لم تتوقف منذ “الربيع العربي” عن التمدد والاعتداء على الأرض السورية و العراقية ، حيث تضع يدها اليوم على مساحات ليست بالقليلة من الشمالين السوري والعراقي ،و تصادر الحقوق التاريخية لمياه البلدين في دجلة والفرات. والحال مع مصر والسودان ليس بالأفضل ، فأثيوبيا تلك الدولة المفككة المنقسمة على نفسها تهدد مصر والسودان بالانتقاص الفاضح من حصص هذين البلدين العربيين من مياه النيل .
هذه هي الحالة الآن، تفكك عربي ، مشروع إسرائيلي لم يتوقف عن التمدد ، ومشروع تركي أطماعه واضحة في البلاد العربية ، ومشروع إيراني مزمن بمحاولة تحقيق طموحاته في أقطار عربية كثيرة. وحتى هذه اللحظة فإن العرب لا يبذلون الجهد الكافي لمواجهة هذه المشاريع التي تطمع بالأرض و بالموارد و بالسيادة العربية وبالاستقلال العربي.
-2-
إلا أنه و على جانب آخر فأن هناك بوادر لإحياء مشروع للأمن القومي العربي، و لذلك وقائعه على الأرض. حيث يمكن لنا أن نرصد تحركات عربية وبالرغم من أنها مبعثرة ، إلا أنه يمكن تصنيفها في دائرة رد الفعل على هذا الحال .
أولا : نرقب ذلك النشاط السياسي و الإقتصادي لولي العهد السعودي محمد بن سلمان كإشارات كبيرة لتحقيق الاستقلال الاقتصادي عن الغرب والانفتاح بشكل متوازي و متساوي مع القوى العظمى في العالم كروسيا والصين، وأن المؤتمر الصيني العربي الذي سوف يعقد في الرياض مثال كبير على ذلك ، والذي سبقه قرار السعودية بتخفيض أسعار النفط داخل مجموعة ” أوبك + ” خلافاً للمطالب الأمريكية المتكررة بزيادة ضخ النفط ، و هي قرارات تعبر عن المصالح السعودية دون النظر لأي إعتبارات أخرى ، بل ويقال بأن السعودية بصدد الانضمام إلى مجموعة ” البريكس ” التي تضم اقتصادات كبرى تحاول أن تعبر عن مصالحها بصورة مستقلة أو النظر إلى مصالح الآخر.
كذلك و بنفس السياق، فإننا نشهد تنسيقاً إقتصادياً بين العراق و الأردن و مصر ، و مع أنه بطابع اقتصادي، و لإن السياسة تتبع الاقتصاد،فإن هذا المحور هو مقدمة لموقف سياسي موحد تجاه القضايا العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية .
و هنا لابد أن نتوقف عند قرارات قمة الجزائر و التي ركزت على إحياء الأمن القومي العربي ، و التكامل الإقتصادي العربي و دعم القضية الفلسطينية وإنهاء الانقسام الفلسطيني . و أن الجزائر الى جانب مصر والأردن ، يمكن أن يشكل مثلثاً كأعمدة إرتكاز يمكن البناء عليها . و أن زيارة الملك عبدالله الثاني مؤخراً الى كل من مصر و الجزائر ، إنما تصب بتقديري في هذا الإتجاه .
إذاً و إن لملمنا أطراف هذه الوقائع الجديدة، فإنها بمجموعها قد تشكل بداية لمشروع جديد للأمن القومي العربي قد يأخذ البعد الاقتصادي، ولكنه أيضا يأخذ مدا معقولا في التصدي للأطماع الصهيونية في فلسطين، وأطماع دول الجوار في الأرض والموارد العربية.
-3-
و بعد ، فأن الصحوة العربية ،وإن تأخرت، فإن قدومها أصبح ملحا وضروريا، فلا مجال لنا في ظل هذه التكتلات الكبرى، الغرب، البريكس، الكومنولث الروسي،و وجود قوى صاعدة مثل الصين والهند وغيرها ، أن نبقى في حالة تفكك وأن نبقى على هامش التاريخ والجغرافيا والتأثير ، و على العرب أن يبادروا بطرح مبادرات من شأنها حل الإشكاليات في كل من ليبيا و سوريا و اليمن بإعادة الإستقرار لهذة الأقطار وفق مصالحات وطنية و بناء أنظمة سياسية بها متسع للجميع .
إننا نريد كمواطنين عرب مشروعاً عربياً لا يطمع بالآخر ، إنما مشروع عربي من شأنه أن يحمي الحقوق العربية على اختلافها، وأن يجعل من المنطقة العربية منطقة لها حراسها من أبنائها الغيورين .
قد يقول قائل بأنني أتحدث بتفاؤل، ولكن الإنسان عندما يفقد التفاؤل إنما يفقد الرغبة في الحياة، وعلينا جميعا كنخب وقادة، ومسؤولين، أن نبحث في كيفية إحياء الحياة العربية التي جسدتها الجماهير العربية بالوقفة الواحدة في مباريات مونديال قطر، رغم تباين السياسة وتباعد الأقطار بفعل الحدود المصطنعة.
والله ومصلحة العرب من وراء القصد.
وزير أردني سابق