كل عيوننا وقلوبنا وبنادقنا وأيادينا وحجارتنا كانت لا تحيد عن بوصلة الاحتلال جزءاً صغيراً من شعرة لا ترى بالعين المجردة، وعينا أنفسنا على الاحتلال الذي تتقدم دباباته لتحتل ما تبقى من ارض فلسطين، وعلى مقاومة الاحتلال، ولا شيء غيره، كان علينا ان نقدم ونضحي ونستشهد ونمضي عمرنا في مقاومة الاحتلال. كانت أقلامنا، وثقافتنا.. وكان وعينا محكوماً، بالاحتلال جرائم ومقاومة استيطان ومقاومة، كانت الثورة حلم كل الاجيال من الطفل الى الشيخ الى المرأة وحتى العجوز كان الاحتلال قلقنا وهمنا وهدفنا وكان السباق من يقدم اكثر، من يضحي اكثر، ومن يتخذ خط المقاومة ثابتاً في حياته، منهم من استشهد ومن صار معاقاً، ومن أمضى حياته وزهرة شبابه في السجون ولم يبدلوا تبديلا، هو الاحتلال، ولا شيء غيره.معذرة، نحن، نحن، تخرجنا من جامعات السجون والمعتقلات والزنازين وأقبية التحقيق، وكان حلمنا أن نكسر أبواب السجون، وندمر الزنازين وللأبد ونصنع وطناً بلا احتلال، وبلا اعادة انتاج للاحتلال، ولكن للأسف اصبحنا غرباء في وطن هو لنا، نحن الناس. سقط الوطن تحت أقدام السلطةلم يكن عندنا (دمية) اسمها سلطة، ولا مناصب، ولا كراسي، ولا امتيازات دفعت بالفصائل والقيادات!! للدخول في حرب مفتوحة عليها، حرب دموية سال فيها الدم وقطعت الارجل، وفتحت ملفات اعتقال الناس على مصراعيها لنعيد انتاج سجون وزنازين الاحتلال، وكل ذلك يقدم باسم الوطن، والمقاومة، والتحرير، والمصلحة العليا، وباسم الشعب، يا للكارثة التي وصلنا اليها.سقطت المقاومة، وسلاح المقاومة، وثقافة المقاومة، ووعي المقاومة، ومعها صار الوطنيون اقلية منبوذة، محاربة، وصار سلاح المقاومة سلاح سلطة، وقمعاً داخلياً، وصارت ثقافة المقاومة ثقافة الردح، عبر جوقة الكتاب المرتزقة الذين يعملون كمقاولين لهذه السلطة او تلك لهذا الفصيل او ذاك، لهذه الجماعة وللأخرى، ومهمتها واحدة قتل وعي الارض، الشعب، الوطن، المقاومة، الانتماء، الصمود، ودفع الناس نحو الإحباط واليأس.قسموا الشعب، قسموا الارض، قسموا كل شيء على اثنين، وثلاثة، والحبل على الرقبة، ويهتفون بالمقاومة والانتصارات والإنجازات والصمود، وفوق ذلك يهتفون باسم الشعب، دون معرفة عن اي شعب يتحدثون، هل يتحدثون عن الوطن الذي يضيع وسريعاً أم الشعب الذي يجوع ويهاجر.اذا كان الشعب الذي يتحدثون باسمه لا يعرف عن اي شعب يتحدثون، فعن اي شعب يتحدثون؟! صار الوطن.. راتباًالوطن ليس جغرافيا فقط، وليس وسيلة لخوض غمار حرب السلطة، وليس لافتة يتم تعليقها على الجدار، الوطن وعي وثقافة، ومن ثم انتماء، وصمود، وتحدٍ. الوطن ليس مجموعة من المستفيدين على حساب جوع وقتل وتعذيب وضياع الارض، وإنما وطن الناس، الذين لا وطن لهم، الذين يجدون فيه لهم مكاناً، ووعياً، وثقافة، يموتون من أجله، ولا يفكرون بالهجرة، هذا هو الوطن باختصار، فهل أنتم غاضبون؟! صار الوطن سلطتين تحت الاحتلال، وصار الشعب قبيلتين تتصارعان على سلطة، وصارت السلطة جمعية خيرية، او لجنة تتلقى الاموال من الخارج بالدرجة الاساس، وشيئاً من الداخل وتقوم بتوزيعها على الناس تحت عنوان "الرواتب"، وصار الراتب ابو الاهداف، وأم الاهداف، صارت سلطة الراتب وصارت حياة الناس راتباً في راتب، صار خبر "الراتب" هو الاهم في حياة الشعب الذي ينام وينهض وما بينهم يحلم بالراتب، ولا شيء غير الراتب، وصار حزب الراتب هو حزب الاغلبية، وهذا الراتب صار مرتبطاً بالحبل السري للخارج وفي مقدمته (الدول المانحة)، اذا ما غضبت يتوقف الراتب ولا يعرف بعدها الناس ماذا يفعلون.صار الوطن سلطة، وصارت السلطة جمعية توزع الرواتب، وصار الناس مربوطين بالراتب، ولا فكاك لهم منه، وصارت القضية سلعة للتجارة. هدموا بيوتنا وشردوناسيدتي، لا تبكي على هدم البيت، هو بيتك، هو شقاء العمر، ينهار مرة واحدة بضربة "جرافة" للاحتلال، هو بيتك أخرجوك منه، وألقوا بك، وبأطفالك في الشوارع، ليحتله مستوطن مدجج بالسلاح تحت حماية كل انواع السلاح، هو البيت الاول يسقط، الثاني، الثالث، المائة، الألف وواحد، ونحن نبحث عن بيت تحت سقف الاحتلال، غداً يسقط علينا جميعاً، وعندها..عفواً سيدي الختيار، وأنت تقف صلباً، شامخاً في أرضك، تغرس نفسك في الارض بجانب شجرة الزيتون التي زرعتها قبل نصف قرن وأكثر، لتدافع عنها وحدك، ووحدك في وجه المستوطنين، وتسقط جريحاً، مصاباً، لم يساعدك جسدك الذي شاخ، ولم يعد يقوى على ردع هؤلاء الغاصبين، المجرمين، الذين حرقوا الشجر وقطعوه وصادروا الارض وعندها..عفواً، جارتنا الختيارة أم محمد، حيث كنت تحدثينا عن ما قبل النكبة، عن النكبة، وكيف كان الصهاينة يستولون على الارض، ويقتلون، ويعتدون على الناس يومياً، كنا صغاراً، نرسم في مخيلتنا صورة لهم، والحقد يعتمل في داخلنا، والغضب. الآن كبرنا ولم نعد نحتاج لمن يروي القصص لا جارتنا ولا غيرها، لأن التاريخ يعيد انتاج نفسه، لعدونا، ولأنفسنا وقياداتنا وصراعها على السلطة، والفرق في الأسماء، وفي اسمي الاحتلال من البريطاني الى الصهيوني الاستعماري. نعتذر لكم، نحن "مهزومون"سيدتي، سيدي، جارتنا، اعذرونا فقط قليلاً، لم يهزمنا الاحتلال في كل حروبه، ولم تهزمنا القوة، لا القتل، ولا السجون، ولا التعذيب، ولا الحصار، لا يا سادتي الناس، لم يهزمنا عدونا، نحن هزمنا انفسنا، والاحتلال يقطف هزائمنا، مصادرة وتهجيراً. لم يعد هدم البيت يحرك فينا شيئاً، ولا عدوان وجرائم المستوطنين، ولا الشهيد، ولا المعتقل، صارت كل آلامنا وأحزاننا خبراً عادياً لا تحرك فينا شيئاً، صار هدم بيتنا يستفز العالم من حولنا، ونحن نمر عليه مر الكرام كأي خبر آخر، يحدث في مكان قصي على هذه الارض، نحن هزمنا، وعينا هزم، وثقافتنا هزمت، وصرنا أسرى للقمة الخبز.صار يا سادتي خبر الراتب يهمنا، يهزنا، يستفزنا اكثر من اغتيال شهيد، واعتقال مائة، ومصادرة ألف دونم، وصرنا أسرى لعجزنا، ولهروبنا المتواصل نحو الخلاص الفردي، لماذا وصلنا لهذه الحالة وكيف وصلنا؟! عفواً، سادتي الناس، لم ننتظر فقط قليلاً حتى نقطف الثمر، زرعنا وتعبنا، وقبل الموعد قطفنا الثمر، سلطة تحت الاحتلال، وأصبحنا نخوض حربنا ونكبتنا على هذه السلطة، ووصلنا لقعر القنينة، لا نعرف كيفية الخروج منها، فاعذرونا، لم يعد الوطن الارض والشعب. صار الوطن فصيلاً.. وجماعة.. و..قبل سنوات، قبل الانقسام، وقبل.. قبل، كانت الثقافة العصبوية، الشوفينية تطل برأسها قليلاً، وكان يجب قطع الرأس، ولكن عفواً، صارت من حالة فردية الى ظاهرة، ومن ظاهرة الى نمطية، والآن نبكي على انفسنا، وعلى حالنا، ونسأل كيف وصلنا لهذه الحالة؟!صارت فلسطين.. الارض، الشعب، القضية، المقاومة، هي حماس، وهي فتح، وهي حزب الشعب، وهي.. لم تعد فلسطين حاضرة في الوعي، والثقافة، صارت حماس، فتح، سلطة القطاع، الضفة، منظمة التحرير، حماس، وما شاء للأسماء أن تكون، صار شتم فلسطين، الشعب، القضية، مسألة عادية، أما شتم حماس او فتح، فجريمة يعاقب عليها القانون الفاشي للفصائلية، فاعذرونا.لم يعد الوطن فصيلاً، صار "شخصانياً"، وصرنا مشغولين بأنفسنا، فيما الاحتلال مشغول بنا، استيطاناً ومصادرة وتهجيراً وحصاراً، واعتقالاً، وقتلاً، وإذلالاً، ونحن نهتف: عاش الوطن، عاش الشعب.