رغم اقتراب موعد تقديم القوائم الانتخابية المشاركة في انتخابات الكنيست الإسرائيلي (15 الشهر الجاري)، لم تقو القائمة المشتركة بعد على ترتيب أوراقها، ويتهدّدها خطر الانقسام مجددا. وكانت الخلافات قد نشبت وظهرت فور الإعلان عن انتخابات برلمانية مبكّرة بين مركبات المشتركة (الجبهة الديموقراطية برئاسة أيمن عودة، التجمع الوطني الديموقراطي برئاسة سامي أبو شحادة والحركة العربية للتغيير أحمد الطيبي) وهي تتركز عمليا في ترتيب المرشحين أكثر منها خلافات سياسية وفكرية.
يشار إلى أن “المشتركة” جمعت كل الأحزاب البرلمانية العربية في قائمة واحدة عام 2015، بعد رفع نسبة الحسم إلى 3.25% فحصلت على 13 مقعدا، مما دفع اليمين بقيادة بنيامين نتنياهو للتحريض عليها واعتبارها تهديدا استراتيجيا. وفي ظل هذا التحريض المنفلت عليها من قبل اليمين، بقيادة نتنياهو، نجحت المشتركة بحصد 15 مقعدا في انتخابات ربيع 2019، ولكن الخلافات والانقسامات سرعان ما استبدت بها فانقسمت لقائمتين في انتخابات خريف 2019: تحالف الجبهة العربية للتغيير (6 مقاعد)، مقابل تحالف “القائمة العربية الموحدة” برئاسة منصور عباس، والتجمع الوطني الديموقراطي (4 مقاعد) فتراجع تمثيلها من 15 مقعدا إلى 10 مقاعد عقب عزوف نسبة كبيرة من الناخبين العرب عن الاقتراع.
وفي نهاية المطاف تكونت “المشتركة” من جديد عدا “القائمة العربية الموحدة” برئاسة منصور عباس التي انشقت عنها وخاضت الانتخابات الأخيرة بمفردها وحازت على أربعة مقاعد فيما فازت المشتركة بستة مقاعد. ومنذ نحو الشهر يتمحور تصاعد التوتر داخل “المشتركة” بعد تسريبات عن نية المركّب الأكبر، وهو “الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة” خفض تمثيل “العربية للتغيير” لمقعد واحد بدلا من مقعدين، ورفض مطلب “التجمع الوطني” بزيادة تمثيله من مقعد إلى مقعدين. هذا إلى جانب إعلان “التجمع الوطني الديموقراطي” عن مطالبته بأن تعلن “الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة” مسبقا وبوضوح عن موقف رافض للتوصية على أي مرشح إسرائيلي لرئاسة الحكومة، بينما كانت “الجبهة” قد أوضحت في بيانها أنها لن توصي على أحد إلا لمن يقبل بإنهاء الاحتلال وإلغاء قانون القومية وتحقيق المساواة السياسية والمدنية للمواطنين العرب في إسرائيل. وترى “الجبهة” بأن ما صدر عنها كاف ولا حاجة لرفض مبدئي لفكرة المشاركة بالتوصية على أحد المرشحين لتشكيل حكومة مما دفع “التجمع الوطني الديموقراطي” للإعلان عن نيته تشكيل “تيار ثالث” يتحالف فيه مع شخصيات مستقلة وخوض الانتخابات بمفرده، مع إبقاء الباب مفتوحا لتشكيل “المشتركة” مجددا بحال قبلت شروطه، وهذا ما ترفضه “الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة”، وترى به سلوكا غير سياسي ومتهوّراً وتحركه اعتبارات غير مفهومة.
وعلى خلفية ذلك، وفي ختام اجتماع لجنته المركزية، أصدر “التجمع الوطني الديموقراطي” بيانا قال فيه إنه يواصل استعداداته لخوض الانتخابات انطلاقا من مبادئ مبادرة التيار الثالث التي أطلقتها اللجنة المركزية لـ “التجمع”. وتؤكد اللجنة المركزية دعوتها إلى أوسع تحالف وطني على أسس مبدئية ومنصفة، وتخوّل المكتب السياسي مواصلة الاتصالات والمفاوضات مع أحزاب وشخصيّات وطنية، على أن تلتئم اللجنة مجددًا نهاية الأسبوع المقبل لمواكبة التطورات والإقرار بشأنها.
المماطلة بإقامة “المشتركة” تخدم أعداء شعبنا
وسارع الأمين العام لـ “الحزب الشيوعي الإسرائيلي” عادل عامر، رئيس الطاقم الانتخابي لـ “الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة” لإصدار بيان دعا فيه شركاء “الجبهة” في “القائمة المشتركة”، الى خوض المفاوضات الثلاثية المكثفة فورا، لإعادة تشكيل “المشتركة” بمركباتها الثلاثة اليوم قبل الغد.
وقال عامر إن: “المماطلة بتركيب القائمة لا تخدم إلا اليمين العنصري والأحزاب التي تريد تهميش الجماهير العربية وصوتها الوطني الشامخ الكريم في الكنيست”. وأضاف عامر: “نحن في “الجبهة” بدأنا العمل على كافة الأصعدة لكل السيناريوهات، للخروج إلى الناس بقوة ببرنامج سياسي، وبرنامج عمل يعالج قضاياهم ويحمل همومهم”. وأكد عامر أن هذا البرنامج يكون أقوى بالوحدة، وأن شعبنا كله يكون أقوى بالوحدة، بوحدة الصوت الوطني الشامخ، ونحن قادرون على صون هذه الوحدة.
واختتم عامر: “نقول إننا قادرون بكل ثقة، اعتمادا على تجارب الأعوام الأخيرة، حيث عملت المركبات الثلاثة بانسجام وتعاون كبيرين، ورفعنا صوت شعبنا بأمانة وخدمناه من خلال التأثير بعزة وكرامة، ولا مبرر لشرذمة “القائمة المشتركة” في حين يتوحد الفاشيون سموطريتش وبن غفير”.
ويشار هنا إلى أنه نتيجة عوامل ذاتية وموضوعية متنوعة، فإن الأزمة الملازمة للسياسة العربية في إسرائيل أعمق وأكبر وأخطر من المحنة المتفاقمة لأحزابها المشاركة في انتخابات الكنيست (المشتركة والموحدة).الأزمة بنت المحنة، والعكس صحيح، فكل منهما مرآة للآخر ويغذّيه، وهنا يقتصر الحديث على موضوع المشاركة في انتخابات البرلمان الإسرائيلي الخامسة والعشرين.
من الممكن أن يكون حال الأحزاب العربية حال فلسطينيي الداخل جميعا، غدا أسوأ من اليوم، ويخطئ من يراهن على فكرة الانهيار الكامل من أجل بدء البناء من جديد. الفكرة خاطئة لعدم وجود فراغ في السياسة، وفي مرحلة الترّدي العامة الراهنة (عربيا وفلسطينيا ودوليا) سيؤدي الانهيار بالضرورة لظهور “روابط قرى” جديدة تتعامل مع السلطة الإسرائيلية بدون كرامة وترضى بالفتات، وتصبح خيمتنا بدون أعمدة وسفينتنا بلا مراسٍ، وربما بلا بوصلة.
ويتساءل مراقبون كثر؛ هل يعقل ألا يرى قادة الأحزاب أن الحالة “تعبانة” من أصله نتيجة عدة أسباب، وأن ما تقوم به أياديهم يزيد طينتها بلة! فقط من كان به صمم وعمى لا يرى حالة الإحباط والاشمئزاز لدى المجتمع العربي من أداء هذه الأحزاب وأولوياتها وتعاملها مع بعضها البعض ومع الجمهور.
“رضينا بالبين والبين ما رضي فينا”
منذ انتخابات الكنيست المبكّرة الأولى عام 2019 تراكم وتؤجّج عدة أسباب حالة النفور والعزوف من الصناديق في الشارع العربي، أولّها الإرهاق المنوط بهذه “الحفلات الانتخابية” المتتالية، رفع سقف التوقعات من “المشتركة”، فقدانها لرؤية وبرنامج وبقاؤها “قارباً” لاجتياز نهر نسبة الحسم ثم تفكيكها مرتين وربما ثلاث، عنصرية السياسة الإسرائيلية التي تدفع المواطن العربي للقول”رضينا بالبين والبين ما رضي فينا”، تواصل الأزمات الحياتية واشتدادها وعدم وفاء الحكومات بتعهداتها حتى “حكومة التغيير” مما يؤجّج السؤال حول جدوى العمل البرلماني من هذه الناحية (التأثير مقابل التمثيل) وغيره.
كم مرة تلدغ السياسة العربية من جحر واحد!
على خلفية ذلك وغيره، فإن استمرار الأحزاب العربية في المناورات والمسرحيات والتصريحات الفارغة سيزيد طينة المشتركة بلّة كما حصل في مرات سابقة، ويهّدد أيضا احتمالات “الموّحدة” أيضا. المناورة السياسية أمر مألوف ومشروع في السياسة وسحب النائب النشيط أسامة السعدي ترشيحه في يوم الانتخابات الداخلية للعربية للتغيير هو مناورة سياسية تهدف لتحسين مواقع الحركة وصورتها العامة، للضغط على “الجبهة” وامتصاص انتقادات حول علاقة القربى بينه وبين رئيس الحركة النائب أحمد الطيبي. هي مناورة، ولا نقول مسرحية سياسية، لكنها أقرب لأن تكون مغامرة غير محسوبة يمكن أن تعود كيداً مرتداً على “العربية للتغيير” وتطلق “عش دبابير” ضدها فتعّمق أزمة الثقة بين الجمهور العربي وبينها بل كل “المشتركة” ومجمل السياسة العربية. عندما سيتم رفض اللجنة المركزية لسحب السعدي ترشيحه وتثبيته من جديد لن يعتبرها الجمهور عملية حقيقية وستطلق سهام التشكيك والنقد ويزداد الابتعاد عن الصناديق بل ستضر صورة السياسة العربية.
الطريق الثالث
كذلك بالنسبة لـ “التجمع الوطني الديموقراطي”، فعند مراجعة كل ما صدر عنه في الشهر الأخير، من تصريحات بالأساس، وبعض التحرّكات المتوجّة بـ “الطريق الثالث” نجد جملة من التناقضات والتخبّطات والفجوات بين الموجود وبين المفقود، ويستنتج المراقب أن هناك خلافات داخلية وحسابات غريبة داخل “التجمّع” تؤثّر على هذه التجاذبات والمناورات وعلى مكانته كحزب يتعرض للتراجع منذ سنوات. من يريد أن ينهض من جديد ويحمل مشروعا سياسيا ويشيّد عمارة لابد من امتلاك الأرض والمواد والخرائط والعزيمة: الرغبة والقدرة.
ويتوافق محللون كثر على أن فكرة التيار الثالث جديرة، لكن لها استحقاقات، أما إخراجها وتوقيتها فيلقيان بالظلال على مدى جديتّها. لـ “التجمع الوطني” رصيد وينبغي أن يبقى حاضرا في المشهد السياسي العربي في الداخل، خاصة أن جهوداً كثيرة بذلت في الماضي لبنائه، ويجب عدم السماح بـذهابها سدى.
كان حريّاً بـ “التجمع” أن يعلن بوضوح أنه يستحق أكثر من تمثيله الحالي ضمن “المشتركة” مقارنة مع “العربية للتغيير”، ويطالب بقلب المعادلة معها هذه المرة بدلا من المشاركة في تجاذبات تمس به، تستنزف هيبة “المشتركة” ومكوّناتها وتدفع جمهور الهدف للمزيد من السلبية. ويتساءل البعض هل يعتبر “التجمع الوطني الديموقراطي” من دروس الحركة التقدمية برئاسة المحامي محمد ميعاري، يوم رفض التحالف مع الحزب الديموقراطي العربي مع النائب عبد الوهاب دراوشة في انتخابات الكنيست الإسرائيلي عام 1992، رغم تحذيره من السقوط بسبب نسبة الحسم، ورغم أن منظمة التحرير الفلسطينية طلبت من ميعاري التحالف مع دراوشة لمساعدة حزب “العمل” الإسرائيلي بالعودة للحكم عشية توقيع اتفاق أوسلو، التي كانت تجري حولها مفاوضات سرية. في تلك الانتخابات قال ميعاري رسميا إنه يرفض التحالف مع دراوشة بسبب طرحه المهادن، ولأنه يرفض أن يدعم حزب “العمل” فسقطت في الانتخابات واندثرت من وقتها.
تغليب الثانوي على المركزي
“الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة” حتى الآن لم يتحّرر بعض مسؤوليها والناطقون بلسانها من التوّرط في تصريحات وخطابات إعلامية فظّة وخشبية ومنفّرة وتصّب الزيت على الخلافات بين مكوّنات المشتركة. هذا ناهيك عن انشغال “الجبهة” المفرط في سياسات المحاور الداخلية القائمة على تباين في المواقف السياسية وفي حسابات شخصية بين رئيسي “المشتركة” و”المتابعة” أيمن عودة ومحمد بركة رغم محاولاتهما إنكاره رسميا.
ورغم كل ذلك هناك من يظن في قيادة “المشتركة” أن عملية المحاصصة ستنتهي قريبا، وعندها يهطل المطر الأول ينظف الساحة من قمامة السياسة، وتعود المياه إلى مجاريها فتنطلق الحملة الانتخابية وتمحى آثار التراشق ويتوقف النزيف، نزيف الهيبة وتآكل المكانة، وستكون النتيجة على الأقل محافظة “المشتركة” على ستة مقاعدها. يفوّت صاحب هذا التقدير أن أثر الفراشة لا يرى، وأن التأثير على وعي الجمهور له مواسمه وتوقيته ودينامكيته. مثلما يفوته أن انشغال الأحزاب العربية بما ذكر بالأساس وأن التشرذم وتقسيم المقسّم كل ذلك سيترك مفاعيل سلبية في وعي المواطن العربي تولّد في داخله رغبة بعدم المشاركة في الانتخابات الخامسة. حمل معروف ومولود متوقع: صناديق فارغة تقريبا.
وربما يكون الواقع على الأرض أخطر مما تتنبأ به استطلاعات الرأي (نسبة التصويت تنحدر إلى دون الـ 40%) خاصة أن الأحزاب العربية كررّت ارتكاب أخطائها وخاطبت جمهورها عبر منصات إعلامية فقط، دون تعبئة وتسييس وشروحات وتوضيحات مستحقة لبعض القضايا المحتاجة للتوضيح، منها كمثال صعوبة العمل في ظل عدم الاستقرار السياسي وسقوط الائتلافات الحاكمة في الفترة الأخيرة.
الهزة ستطال الجميع
من جهتها، ربما تنظر “الموحدة” برضا وفرح لما تشهده سفينة “المشتركة” في بحرها العكر، لكن المزاج السلبي في المجتمع العربي حيال الكنيست، الآخذ بالتعمق والتصاعد، من شأنه أن يصيبها هي الأخرى بجراح، فحمم الزلزال تطال أحيانا مواقع أبعد من قمة الجبل البركاني المتفجر. مسيرة التمثيل العربي في الكنيست تشبه أكثر من أي مرة منذ انتخابات الكنيست الأولى عام 1949 مسيرة التايتانيك بكل ما فيها من أسباب الارتطام.
رغم أن “الموحدة” لها جمهور مؤيد للاندماج التام، وتعمل دون خلافات وبهدوء، فهذا الخطر عليها وارد خاصة أن هناك من صوّت لها وخاب أمله من قلة المنجزات الموعودة، أو من كثرة أخطاء بعض ساستها كتصريحات غير موفقة وخاطئة لرئيسها النائب منصور عباس رغم بيانات تصحيحها، وغيره.
ويكاد يجمع مراقبون على أن الإسراع في ترتيب الأوراق واستبدال التراشق والكلام الفارغ بنقاش سياسي حقيقي حول المراد والموجود، الحقوق السياسية والمدنية، موازنة بين روايتنا وأحلامنا في الماضي والمستقبل وبين حاجاتنا في الحاضر (ضمن مسيرتنا الطويلة جدا) ربما يساهم في منع الانهيار وسقوط كل الأوراق في أيلول وتحاشي بقاء الشجرة السياسية عارية تماما. وهنا يتحمل الإعلام والصحفيون العرب مسؤولية كبيرة بالتمسك بالنقد والحذر من التبني الواعي أو غير الواعي لرواية السياسيين المعلنة (أو رواية الصحافة الإسرائيلية) والمشاركة في ترويجها فهذا يخدم السياسيين العرب ربما، لكنه بالتأكيد يمس بمصلحة من يرى بهم سفراء له، المجتمع العربي.
القدس العربي