هل مازال منا من يشعر بتأنيب الضمير تجاه البؤس المستمر في بلادنا وفي العالم ؟ نعم إن لم نكتوِ بنار البؤس، فنحن نشعر عميقا بتأنيب الضمير لبؤس حالنا وبؤس استفحال القتل والفقر ومصادرة الحرية الحقيقية للإنسان بفعل انتصار المال والنزعة الفردية القاسية ( الاندفيديواليزم) التي ولدها النظام الكابيتالي (الرأسمالي). إن الخونة من الثوار قد مهدوا الطريق للامبريالية وعملوا كرأس جسر لتعميم الأدوات والمنتجات الرأسمالية من الثقافة ومرورا بالديمقراطية والانتخابات وانتهاء بالمؤسسات الأهلية أو غير الحكومية. هؤلاء الثوار الخونة الذين انبطحوا على بطونهم بعد غياب عبد الناصر وانتصار الثورة الجزائرية وصمود فيتنام ودحرها للامبريالية الاميريكية وانتصارأرنستو تشي جيفار في هافانا وامتداد الثورة بقوة بدءً من أفريقيا إلي بوليفيا إلي الهند الصينية إلي اليمن الجنوبي. بعد هؤلاء كان الثوار الخونة، الذين تركوا مهمات التحرر، والتغيير المجتمعي من أجل الفقراء والحرية، فتقلص نفوذ كاسترو كوبا وتموضع في سلطته دون مساهمة في إشعال الثورات الأخرى، وجاء جوربتشيف ويلتسين في الاتحاد السوفيتي يفتخرون باختيارهم التعايش السلمي مع واشنطن، وتلك النخب الجديدة المتعاونة التي كانت تدعي انتماءها إلي الاشتراكية العلمية من إثيوبيا إلي انجولا مرورا بالكونغو برازافيل قد أعادت اصطفافها إلي جانب النظام الليبرالي والرأسمالي كما يقول الكاتب ألان جريش في "مديح الثورة" . وتحولت الثورة الجزائرية إلي سلطة قمعية أشرس من الاحتلال وفي أمريكا اللاتينية سحقت الدكتاتورية العسكريتارية الثورية المتوحشة في السبعينيات كل آمال العدالة والحرية التي نادت بها، فكانت بمثابة خيانة للثورة. وتبع ذلك زوال المعسكر الاشتراكي، واستطاعت القوي الامبريالية المتقدمة في معركتها مع الثورة إلي تعميم نموذج القشور الديمقراطية عبر انتخابات حرة نوعا ما في ظاهرها في أوروبا الشرقية وأميركيا اللاتينية وأفريقيا، وفي العام 2000 وصلت قمة الاحتواء إلي تقدم الأمم المتحدة بالإغراء الشكلي غير القابل للتحقق بفعل ديناميات السيطرة الامبريالية في الواقع الذي يرفع شريحة موظفي الدعاية والتعميم لفكرة الديمقراطية والتنمية نظريا، وبدون عائد حقيقي ونتائج ملموسة إلى الآن. وهنا كان التقهقر والخيانة الحقيقية بدل التصدي والمواجهة إلي إعادة نظر الثوار في خطابهم وإستراتيجياتهم وممارساتهم ما أدى إلي تبهيت أسطورة الكفاح المسلح والتنظير إلي المفاوضات ومشاريع السلام وتبني اللاعنف والحوار، فسقط الثوار وسقطت الثورة، فلا ثورة بدون عنف، وتغيير الواقع والثورة عليه، وسقطت نماذج الثوار إلي مستنقع الفهم المنقوص لحقائق الصراع من أجل التغيير الاجتماعي وتابعوا مسلسل التفاؤل الساذج بالحد من الفقر وتوسيع إمكانية الحصول على العلم والرعاية الصحية والمساواة بين الجنسين وركبوا سفينة المال، ونشأت ديكتاتوريات، وطبقات أكثر توحشا في بعض الأحيان من المستعمرين القدامى. وبدأت مرحلة الانبطاح للبنك الدولي والشركات الكبرى وصندوق النقد الدولي والهجمة الشرسة للمؤسسات الأهلية الرأسمالية المنشأ أصلا، فأصبح الثوار هم المطبعين والمنفذين للأجندة الاميريكية والخيانة إلا من قليل منهم يحاولون بصعوبة إلي بومنا هذا الاحتفاظ بسلاح الثورة كأداة للنضال ولكن هؤلاء أيضاً يقفون في وحل المؤسسات والجمعيات الأهلية التي شوهت صورتهم النضالية والثورية بما فيها من فساد وصراعات على المكاسب والمواقع فأصبح النموذج الثوري ضعيفا يكاد يكون ملحقا بالسياسي التعاوني من أجل المال وهنا تشوه الفعل الثوري بدل الخيانة للثورة. في جنوب أفريقيا حدثت نفس الخيانة من منديلا، وفي المكسيك أيضاً جيش زاباتا للتحرير الوطني" و ماركوس حين قال بضعف قارب خيانة هدف الثورة في التغيير، نحن نقاتل لنسمع صوتنا، بدل أن ينتصر للتغير الاجتماعي المطلوب من الثورة، و من وايرلندا الشمالية الجيش الأحمر تقوقع إلي محليته ولم يعد رافدا في الثورة العالمية، وكذلك في فلسطين تراوح الثورة في نزعها الأخير بين مطرقة وغطرسة الاحتلال وهجمة القوي الظلامية على انجازات وتاريخ الثورة حين تساوقت مع برنامج الاحتواء الأميركي. وانتهت الثورة في سيريلانكا بتآمر دولي منقطع النظير سحقت نمور التاميل ولم يتحدث عن الجرائم هذا العالم الامبريالي الذي يدعي الحرية والديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان. وهدأت إلي حد كبير الثورة في إقليم إلباسك بتقاعس لم يصل لدرجة الخيانة بعد، وسحب مصداقية النضال والثورة. واستقدمت القوي الإسلامية النموذج الأسوأ في القتل والتدمير عبر ما فعلته القاعدة من عمليات ضد المدنيين متشابهة بالامبرياليين في القتل بدل التمايز برحمة المدنيين ، والذي برر استخدام القوة المفرطة والاحتلال لأفغانستان والعراق، وإطلاق سمة الإرهاب على كل مقاومة أو ثورة إسلامية أو غيرها، فالجماعات الإسلامية أخرجت عن مسار الثورات وحوصر حزب الله وحماس وكذلك الوضع المختلط والغامض حول ظروف حركات المقاومة الثورية في العراق ضد الاحتلال الذي يكتوي بنيران الصراعات الطائفية والمذابح اليومية للبشر، إلا من تبقي من مقاومة فاعلة من فلول الجيش العراقي وحزب البعث ضد قوات التحالف والطابور الخامس بعيدا عن المس بالمدنيين. وهكذا بقيت طموحات وأحلام الفقراء بالتغيير الاجتماعي والتحرر من الاحتلال والاستعمار ماثلة أمام ناظري كل ذي عقل سليم ويملك إرادته ولم ينبطح فوق الدولار واليورو، ويؤمن بالعدالة الاجتماعية ورفع الظلم عن المظلومين والمقهورين في كل بقاع العالم رغم طغيان وغطرسة القوة العسكرية، والمالية، للنظام الرأسمالي، الذي حول الدنيا إلي مذابح، وقتل، وتدمير لم يسبق لها مثيل،وتتفاقم بسبب ضعف وتخاذل وخيانة الثوار لمبادئهم، التي انطلقوا من أجلها، ومضافا إليها غياب الحالة الثورية الحقيقية لدي المجموعات الإسلاموية، التي لا تقيم وزنا لحركة التاريخ، وتعمل في نشاطاتها كرافد وممرر ومبرر لاستخدام التوحش الامبريالي، الذي فاقم من الظلم الاجتماعي للغالبية العظمى من سكان هذا العالم، مثلها مثل المنبطحين والمتساوقين مع أدوات النظام الرأسمالي من اليساريين والاجتماعيين والوطنيين، الذين سال لعابهم كثيرا أمام المشاريع والمؤسسات الربحية المسماة مؤسسات أهلية أطاحت بمبادئهم وفكرهم الذي تصوروه أنه أصبح لا يغني ولا يطعم ليس من جوع، بل أيضا لا يجلب لهم الرفاهية وكنوز المال وقصور السلاطين وسيارات الأمراء وملابس الأثرياء وحراس شخصيين على طريقة الكابوي الأميركي. في النهاية أقول إن الحلم بغد مشرق من الحرية، والعدالة الاجتماعية، سيبقي ماثلا ومشرقاً، ولكن بالطريقة التي تحفظ كرامة المجموع، لا التي تضخم الذات لفئة ضلت وخانت شعوبها ورمتها في آتون الفقر والعوز والحاجة وتجارة الدم، ونفدت هي بجلدها ومكاسبها على حساب شعوبها. 12/9/2009م T8sharif@hotmail.com www.dtalal.jeeran.com