من لا يعرف اليابان قبل الحرب العالمية الثانية، ربما لا يدرك حجم التحولات العميقة التي مرت بها بعد الحرب، ذلك ان اليابان قبل العام 1945، كانت امبراطورية الشرق الآسيوي دون منازع، تحتل دولاً عديدة، بما في ذلك (شبه الجزيرة الكورية) ومناطق شاسعة من الصين، وحتى اجزاء من الاراضي الروسية في سيبريا، وتمتلك جيشاً قوياً ونظاماً امبراطورياً ديكتاتورياً ذا أبعاد الهية!ودخول اليابان الحرب العالمية الثانية، التي كانت بالأساس حرباً بين الدول الاوروبية، كما كان حال الدخول الاميركي للحرب، متأخراً وعلى الحواف، ان صحّ التعبير - وتكاد تكون الحرب انحصرت بينهما، حيث كانت ضروساً، خاصة بعد ان حققت الآلة الحربية اليابانية الذكية انتصارات متتالية على الاميركيين- خصوصاً بعد التراجع الالماني في أوروبا- في بيرل هاربر، لكن التحول كان في إلقاء القنابل النووية على هيروشيما وناجازاكي. استسلمت اليابان، كما حدث مع ألمانيا، وفرضت عليها معاهدات تمنع عليها انشاء جيوش عسكرية، لكن ذلك لم يمنع ان تتقدم اليابان، وهي ارخبيل من الجزر المكتظة بالسكان، والتي لا تكاد تملك موارد طبيعية تذكر (لا غاز ولا نفط ولا ما شابه)، على الصعيد الاقتصادي، بحيث امتد حضورها عبر البضائع كل قارات العالم، بما في ذلك السوق الاميركي المحلي نفسه، ثم جمعت بين النظام الامبراطوري، الذي يحافظ على التقاليد للحفاظ على الهوية القومية، والتطور العصري، في اطار نظام سياسي بالغ الشفافية، والأبرز ديمقراطياً في الشرق بأسره. ألمانيا أيضاً والتي ما زالت اراضيها تشهد "قواعد عسكرية" اميركية انتفضت اقتصادياً على الهزيمة، وتعتبر الآن واحدة من أهم اقتصاديات العالم، خاصة في أوروبا الشائخة، وتكاد لا تقارن قوة ألمانيا الاقتصادية بقوة بريطانيا - مثلاً- التي كسبت الحرب العالمية الثانية، والمانيا الآن - وليست بريطانيا التي هي اكثر تبعية لأميركا- قوة اوروبا العظمى التي يرتكز اليها الاتحاد، والتي يرشحها الجميع لحق الفيتو/ النقض في الأمم المتحدة. لا ندري إلى أية درجة خطر ببال د. سلام فياض، رئيس الحكومة الفلسطينية، النموذج الياباني وحتى الألماني، وهو يقوم بصياغة برنامج حكومته، الذي تطوع وعلى غير عادة اسلافه من رؤساء الحكومات السابقة، باسناد أداء حكومته به، ولم يكتف بالقرارات الادارية واعلان الشعارات العامة، وحدّد له سقفاً زمنياً، في محاولة لتدشين نظام مؤسسات ديمقراطي شفاف، لكن من الممكن الاشارة إلى ان طبيعة الرجل المحافظة والاخلاقية في الوقت ذاته، والمطبوعة على نهج الشفافية والعمليات المتواضعة والمثابرة، غير المدعية، والتي لم تعرف أسر الشعارات، تكاد تكون قريبة من النموذج الياباني، أو الطبيعة اليابانية. هناك نماذج أُخرى، ظهرت لاحقاً نجحت في تحقيق ذاتها الوطنية، عبر المثابرة والعمل الدؤوب، دون الادعاء، وهي نماذج قريبة جداً من العرب، مثل ماليزيا المسلمة، المتقدمة اقتصادياً، والعديد من نمور آسيا، حيث الشرق الآسيوي لا موارد طبيعية لديه، بل ازدحام سكاني، ورغم ذلك - كما هو الحال في مملكة النحل- الجميع ينخرط في نظام العمل، وفق منهج تكاملي، ينجز بعد وقت.هذه هي الروح التي تقدمها وثيقة فياض - لانهاء الاحتلال واقامة الدولة، الروح التي تدرك أهمية الاقتصاد في تحقيق الذوات القومية، وكأساس لاستقلال الدول، حيث ان الدول التي ظلت فقيرة، ودونما تنمية - كما حدث مع معظم دول افريقيا عاد اليها الاستعمار الجديد من النافذة، بعد ان خرج من الباب، ولو قارنا الآن بين اليابان وألمانيا مثلاً من جهة ويوغسلافيا السابقة وحتى روسيا، لاتضح لدينا الفرق، الذي هو أيضاً كما الفرق بين الكوريتين- الشمالية الفقيرة والمعزولة والمحاصرة، رغم قوتها النووية، والجنوبية الغنية والقوية اقتصادياً رغم وجود القوات العسكرية الاميركية على أراضيها. هنا في بلادنا تأسر عقول الكثير من الناس، الشعارات والشكليات، وقليلاً ما يدقق الناس في الأعماق، فرغم ان الفلسطينيين ومنذ ستة عقود يعيشون - وهذا لشديد الأسف- على المعونات والمساعدات الخارجية - ومن جهات متعددة- بما في ذلك الدعم المالي للمجموعات العسكرية والمسلحة، الاّ ان الشعارات التي ترتفع حول التحرر والاستقلال، لا تسقط هذا الاعتبار - نقصد البنية الاقتصادية- من الاعتبار وحسب، ولكن تسقط أيضاً التغير الذي حدث حول معنى وطبيعة الاستقلال الوطني، في عصر العولمة، والذي صار يقترب من مفهوم التفاعل الايجابي مع المحيط الاقليمي ومع الكل الكوني، وليس الانفصال عنهما أو العزلة. ربما تكون مشكلة الوثيقة/ البرنامج - كما هو حال ثنائية أبو مازن/ فياض، الساعية لاقامة نظام سياسي ديمقراطي، شفاف وعصري، هي في الطرف الداخلي الآخر، نقصد انه وكما يقول المثل يد واحدة لا تصفق، فان - وهذه مفارقة مؤسية- مشكلة السلطة التنفيذية ممثلة بالرأس المسؤول "عباس/ فياض" انما تكمن في المعارضة وفي المستوى الشعبي المطلوب منهما لمراقبة أداء السلطة التنفيذية، على قاعدة اغنائه، ليصبح اكثر ديمقراطية وأعمق شفافية، وليس العكس.المجمع الفصائلي، وبتفاوت بالطبع، يكاد بالمحصلة العامة، يدفع السلطة التنفيذية، لأن تتحول إلى سلطة ديكتاتورية، رغم ايمانها العميق بغير ذلك، فالاحتجاج الذي تلا اعلان وثيقة فياض، مثلاً، انطلق من موقع الحرص الفصائلي، على ابقاء النظام السياسي رهينة لهذا المجمع، الذي كان ولا يزال جزءاً من المأزق الداخلي، وليس جزءاً من حلّه! فاذا كانت ثنائية فتح/ حماس أوصلت النظام، بعد ان عجزت عن تحقيق مبدأ الشراكة كما يجب، للانقسام، فان الفصائل الأخرى عجزت عن منع الانقسام، ثم عن وضع حدٍ له، وهذه الفصائل التي يطالب بعضها بتحويل الحكومة الى مجلس بلدي، في الوقت الذي تطالب فيه بأن تكون لها كل الصلاحيات التنفيذية - كمرجعية وذلك حين تتحدث عن مرجعية م.ت.ف، فانما تنسى انها خارج دائرة المراقبة والمحاسبة الشعبية، وان أساس النظام الديمقراطي، هو ان يكون الشعب مصدر السلطات لا أن يكون هناك وكلاء عنه، لا أحد يعلم من يمولهم، ولا كيف تصرف ميزانياتهم، ولا كيف يديرون شأنهم الداخلي، بارقة أمل - رغم كل هذا السواد- تلوح في الأفق، تتمثل برئيس ديمقراطي ورئيس حكومة مثابر، ومن ثم برنامج سياسي واقعي، عقلاني وعملي، قد ينقل الفلسطيني إلى مكانة لائقة في العصر الحديث، شريطة الالتفاف حول هذا البرنامج.