لم أزر المخيمات الفلسطينية في سورية (اليرموك والعائدين والنيرب) منذ ما قبل فوز حماس الديمقراطي بكراسي المجلس التشريعي وثم انقلابها الدموي في غزة. حماس، في المخيمات خارج الأرض المحتلة، لم تتغير كثيرا، المنهج وطريقة ’التفكير’ هي هي، إلا أن الشدة في هذا المنهج هو ما تفاقم، لينعكس ذلك على سلوكياتها وعلنية مشروعها، وهو ما كانت، قيادة وكوادر، تضمره أو ’تخجل’ من البوح به.أعتذر أولا من الغزّيين لأني أكتب عن الحركة دون اختبار معاناة مباشرة أو شخصية لسطوتها كوني لم يُكتب لي العيش في حكمها، بخلاف أهلنا هناك، ولهم على كل حال أن يعتبروه ابتلاء من الله. ولكن سلوك ونهج تلك الحركة في المخيمات، مع الاعتبار بأنها لا تحكم بقوانينها، كفيل بتوضيح بعض أوجه المعاناة في غزة. الفرق، بينها في غزة وفي المخيمات، قد يكمن في أنها (صارت أيضا) تستخدم قوة ’القانون’ والحكومة بوزاراتها وبوليسها في القمع وفرض أنماط حياة معينة في غزة، وتستخدم الترهيب الديني والمال السياسي/الديني (فقط) في المخيمات، تماما كما في غزة قبل الانقلاب.كلما كتب أحد منتقدا حماس، كان إلزاما عليه أن يشير إلى موقفه من فتح: أنّ الأخيرة مثلا قد لا تقل سوءا عن الأولى، وكذلك الأمر مع حماس إن انتُقدت فتح، ولذلك تأثير على انسيابية المقالة شبيه بالمطبات على الطرق السريعة. يمكنني إذن حذف هذه الفقرة لولا أنّ التهمة ’بالفتحنة’ صارت ملاصقة لكل منتقد لحماس، وهذا بالمناسبة أحد أساليب الحركة في التعامل مع أهالي المخيم: فأنت إما حماس وإما لا، و’لا’ تعني حصرا فتح، وما أدراك ما فتح عندهم.المهم.. بعد تبرئة الذمة من ’فتحنتي’، يمكنني- أو هكذا أظن- أن أنتقد ما شاهدته وسمعته (فقط) من سلوكيات حمساوية في اليرموك والعائدين والنيرب مثلا.أثناء وجودي في المخيم بدأت حماس بتوزيع إعاشة، أي طحينا وعدسا وسكرا..الخ، على بعض الأهالي. لا أقدم جديدا إن قلت بأن الحركة لا توزع إعاشة، أو نقودا، إلا لأعضائها، لكن الجديد هنا أنها وسّعت النطاق قليلا في أماكن وضيّقته في أماكن أخرى: أن توزع الإعاشة فقط على العائلات التي تحوي شبابا في الثانويات أو الجامعات والمعاهد، على ألا يكونوا منتمين أو مناصرين علنا لتنظيمات أخرى، وبشكل موازٍ لم يكن العوز أو الفقر أبدا معيار ’العطاء’ هذا. وبالمناسبة فالهم الأساسي لجميع الفصائل هناك، وفي كل ساحة على ما أعتقد، هو التوسّع في أطرها الطلابية خاصة. لكلٍّ طريقته، لكنّ لحماس امتياز استخدام المال السياسي هنا. سمعتُ حينها عدة اقتراحات بأنها لو أقامت مشغل خياطة مثلا- وليكن اسمه مشغل المقاومة الإسلامية- بهذا المال لكان المخيم بعامته، كنسيج اجتماعي، انتفع منه، ولحرّكوا الاقتصاد قليلا في المخيم وخفّضوا من نسبة البطالة هناك، ولشعر الناس أكثر بأنهم يكسبون المال بعرقهم، وببادرة حماس الطيبة، لا بمنّة منها. لكن الأخيرة على ما يبدو تعي تماما أنها بذلك لن تشتري شعور الناس بالامتنان ولا خجلهم منها، وهو ما يأسرهم في عبارة: مهنّ اللي عميصرفوا علينا، طبيعي أنا وولادي نكون حماس.هو إذن ’عطاء’ مشروط، ما كان ليكون أساسا إن لم تقابله ’بيعة’ لحماس وشعور بالامتنان لها والخجل من ’كرمها’، ولحماس ’منطقها’ في استغلال ذلك. فلا ’العطاء’ كان لوجهه تعالى حيث الأولوية للمحتاجين، ولا كان لتنشيط اقتصاد المخيم. أضف إلى ذلك تجاهل حماس اقتراح بعض الأهالي بأن تأخذ كشفاً من ’الجمعية الخيرية’ الرسمية بأسماء الأسر الأشد فقرا في الميخم.ذكرت في بداية المقال أن شدة نهج حماس، خارج غزة، تفاقم بعد الانقلاب في غزة، و’عطاؤها’ هذا مجرد مثال على ذلك. قبل الانقلاب بكذا سنة جاء بعض ممثلي الحركة إلى الاتحاد العام لطلبة فلسطين في احدى الجامعات، وكنتُ عضوا إداريا حينها، طلبوا أن نكون الوسيط لتوزيع مواد جامعية على الطلبة الفقراء، ما كان لدينا مشكلة غير إصرار حماس على أن تقدَّم المعونة باسم وشعار الحركة، اليوم أراها وقد تخطت هذه المرحلة، صارت أكثر ’وعيا فئويا’ في توزيع ثرواتها. زد على ذلك أن طالب الجامعة الحمساوي يتقاضى راتبا من الحركة، كونه منتمياً لها بغض النظر عن العوز أو الحاجة طبعا. للأمانة أقول لم ألتق بأحدهم، لكني سمعت القصة في أكثر من مخيّم وكذلك أنّ: بعد أن كان الشباب يهتفون ’حماس ثورتي’ صاروا يسرّون لبعضهم ’حماس ثروتي’. لحماس الدهاء والخبرة في استثمار المال السياسي/الديني على أحسن وجه، مثال بسيط على ذلك هو الراتب الشهري الذي تعطيه لمن تتنقّب. هكذا بكل بساطة، تنقبي وخذي راتبا شهريا، الحجاب لم يعد يكفي. لكن ما علاقة النقاب بالكسب السياسي للحركة؟ الدهاء هنا في محاولات حماس إفشاء ظاهرة التشدّد في المخيمات، وأهل المخيمات منذ نشوئها- أي قبل حماس بأربعين عاما- مسيّسون، فالربط بين السياسة و’التديّن’ إذن قد يزيد من رصيد حماس هناك بشكل أوتوماتيكي أو لاوعيي، وذلك في محاولة- على ما يبدو- لكسب ما خسرته في الضمير الجمعي لأهالي المخيمات بسبب سلوكياتها الاجتماعية فقط - وقصة النقاب هذه تنقلب عليها لتنقص من رصيدها- فما بالك لو تكلمنا عن سلوكياتها السياسية في المخيمات، بدءا بسلوكها مع فتح فالشعبية فالجهاد؟... تحضرني الآن قصة ملصقات جورج حبش التي أصروا على نزعها- وماذا نقول عن ملصقات ياسرعرفات؟- من على جدران المخيم على أنه ليس شهيدا، هذا السبب المعلن فقط، وقد سبّب لهم ذلك على كل حال حرجا كبيرا مع الأهالي.وعلى سيرة ’الشهيد’، في ندوة لأحد قادتها في مخيّم يفخر أهله بشهدائهم (كباقي المخيمات) في الثورة الفلسطينية- ومنهم الشهيد أحمد شريح الذي سميت الساحة الرئيسية في المخيم باسمه قبل عقود، أما حماس هناك فغيرت اسم الساحة في دعواتها ليصير: ساحة الجامع- أعلن المحاضر صراحة بأن الشهيد هو من استشهد لإعلاء كلمة الله وكفى. لكن ماذا عمّن مات دون أرضه فهو شهيد؟ ومن مات دون عرضه فهو شهيد؟ ومن مات دون ماله فهو شهيد؟ ليقول لاحقا أحد كوادرهم بحرقة، وهو بعمر المراهقة: نفسي بس لو أستشهد بالشيشان.المأساة في ’نفسي بس’ أفدح مما هي في ’الشيشان’. سلوكيات حماس هذه تسيء أكثر ما تسيء إلى الدين الذي تريد هي احتكاره فلسطينيا، فتكون الوكيل الحصري للإسلام في أكناف بيت المقدس. الأهالي يربطون ذهنيا بين حماس والإسلام، كونها تسمي نفسها مقاومة إسلامية، وقد يربطون بين ممارسات حماس والإسلام. لكن المعادلة تُعطَب هنا، فالحركة تنكشف أكثر للعامة، وما كانت تبطنه صارت تعلنه، والكشرة على سحنات وجوه كوادرها تكاد تكون دائمة بعد أن كانت موسميّة في أحسن الأحوال. وكثير من الأهالي بدؤوا يَعون أهمية وصحّة الفصل بين الدين وحماس، لأن الأخيرة تخسر أرصدتها عندهم، وهم لا يريدون أن يخسروا دينهم. لا يريدون الربط بين ضعف الفكرة (المرجعيّة المفترضة أي الإسلام) عند حماس كحركة إسلام سياسي، وبين تعويض حماس ذلك الضعف بالمال السياسي.فليعذرني أهلنا في غزة، لم تكن الصورة بهذا الوضوح من قبل. كان عليّ زيارة المخيمات لأعرف ما يعرف الأهالي هناك، لأفاجأ بما صار عاديّا عندهم، فما الذي لا نعرفه إذن عمّا هناك في غزة؟ ما الذي صار عاديا عندهم؟كاتب فلسطينيwww.horria.oeg