اكتشافات متأخرة..سما حسن

الخميس 14 أكتوبر 2021 10:55 ص / بتوقيت القدس +2GMT



 اليوم وقد مر أكثر من شهر على عودتي إلى أرض الوطن بعد رحلة سفر استمرت لشهرين في زيارة لابني المغترب في تركيا، أجلس وحيدةً على أريكتي المفضلة وأطلق العنان لأسئلة حائرة في رأسي، لتساؤلات وليست أسئلة لأنني أسألها لنفسي، ولا أطرحها على أحد، وتكسوها الحيرة والعجب ويغلفها اللوم والعتاب.
اليوم تراجع حساباتك، لماذا لم تستغل الزيارة كما يجب؟ ترى بعض الصور على مواقع التواصل الاجتماعي لأماكن سياحية قد زرتها ولأسواق شققتها روحةً وجيئة عدة مرات، ولكنك لم تكن تعرف أنها بهذه الروعة كما تراها الآن بعد أن غادرت وعدت إلى وطنك وأصبح بينك وبينها آلاف الأميال، تراها جميلة وبديعة وكأن التصوير قد خُلق لها، أو كأن عينيك قد خانتاك وأنت تنظر لها عن قرب فلم تر كل هذا الجمال، ها أنت تجلس بعيداً وقد عدت للأريكة الباهتة اللون والكالحة الخطوط في غرفة المعيشة، وتتذكر ذلك المكان بالتحديد وكيف نهبك التعب، وتسرب العرق من جبينك وأنت تقطعه في يوم من أيام شهر تموز الحارة، وهكذا لم تستمتع بهذا الجمال أو انك لم تكتشفه.
 ها أنت تطالع صوراً أخرى لزيارات أصدقاء جاؤوا بعدك إلى هذا المكان، وها هم يلتقطون الصور من زوايا مختلفة ويكشفون عن بواطن وخبايا لم تكتشفها، فيعضك الندم وتتمنى لو كنت بصحبتهم ليضعوا يدك على هذه الخفايا، ولكن وقت الندم قد ولى.
مثلما تجلس على ذات الأريكة وتكتشف أنها مريحة بالفعل وان النظر عبر النافذة إلى حديقة البيت، حيث تطل عليك شجرة الرمان العجوز والتي كنت تقطف حباتها غير الناضجة كالأطفال قبل سنوات بعيدة، يوم ان جئت لتصبح فرداً من هذا البيت، تكتشف ان منظر الشجرة جميل حتى وهي تحمل أوراقاً مصفرة لأن الخريف لم يرحمها، وحتى وهي خالية من الثمار، فهناك عبق ذكرى للقاء حميم في يوم من الأيام كان قد حرك بداخلك مشاعر صغيرة ورقيقة لم تنضج مثلما لم تنضج ذات يوم الحبات على أغصان شجرة الرمان، ففي كل مرة كان يلاحقها الصبية المتسللون عبر سور البيت المنخفض، فيقطفونها ويركضون تلاحقهم لعنات أصحاب البيت في الطابق الأرضي.
اليوم تقرر أن تنظر لكل أمر قد مر بك وتتذكر كم كنت تحسبه سيئاً، وها أنت تكتشف العكس، تراجع حساباتك منذ أن اكتشفت انك قد زرت تلك الأماكن متسرعاً، أو مدعياً أنك تستمتع بها ولكن في الحقيقة كنت ترضي رفاقك لكي لا يتهموك بأنك رفيق سفر سيئ، أو أنك إنسان سريع الضجر، والنتيجة أنك قد عبرت بها كعابر سبيل فلم تكتشف جمال رص ألوان وأشكال من الحلوى كما تراها من الصور، ولم تكتشف روعة الماء المنساب من الشلالات ولا حتى الشاطئ المحاط بسور منخفض مع مغيب الشمس.
تدع الصور التي رأيتها جانباً وتتأمل اختياراتك وتتساءل بينك وبين نفسك: لو عاد بي الزمن هل سأبقى على تلك القناعات؟ هل سأعلق كل فشل مررت به على شماعة الآخرين؟ هل سأظل أنكر أنني أحببت هذا الرجل فعلاً ولكنني لم أجرؤ على الإفصاح أنني قد أسأت الاختيار فألقيت باللائمة على الكبار، الكبار الذين كنا نعتقد دائماً انهم يعرفون مصلحتنا أكثر منا، ويعرفون أكثر منا، وأن الشيب الملتهب في رؤسهم لم يشتعل من فراغ؟ ولكن الحقيقة أن السكوت كان علامة الرضا، وأن هذا الشاب الذي يقترب من عامه الثلاثين قد خطف قلبي منذ أن رأيته لأول مرة، خطفت قلبي الشعرات البيضاء القليلة التي تسللت لسواد شعره المجعد من الأمام والمنسدل من الخلف في تصميم عجيب، وأن سمرته قد أخذتني لحلم ساذج مثل أحلام فنانات السينما في الستينيات والتي كنت شغوفة بها لدرجة الجنون، ولم يكن ينقصني أيامها سوى ذلك الفستان العاري الصدر والمنفوش من خاصرته حتى أسفل الركبة، وبيانو عتيق يعزف فوقه عبد الحليم كلمات قد خططتها له وهو لا يعلم.
الاكتشافات المتأخرة موجعة ومؤلمة ولا مجال للتراجع فيها، يكفي أن تجلس فوق الأريكة الباهتة والكالحة الخطوط وتتحسر لأن عجلة الزمن لم تدر يوماً إلى الخلف إلا في الروايات أيضاً.