عندما يحدث أمر سيئ معك فمن الطبيعي أن تجد من الشامتين حولك الكثير، ولكن ذلك لا يمنع أن تجد المتضامنين والمؤازرين، ولكن عندما غابت بعض مواقع التواصل الاجتماعي لساعات، لم تجد أبداً الشامتين، فالكل قد أصبح في الهم شرق، وبدأ الجميع يعاني كمن قطع عنه أنبوب الأكسجين.
في لحظة أصبح أولادي في غرفة المعيشة وكل واحد يحمل هاتفه الذكي بيده، ويحاول ويحاول دون كلام، ثم فجأة أيضاً تكلمت ابنتي الصغيرة وقالت: هل دفعت اشتراك خدمة الإنترنت هذا الشهر، وهنا انتبهت أن تطبيق «الواتس أب» و»فيس بوك» قد تعطلا على هاتفي، وأن الرسائل التي أرسلتها لابني لم تصدر عنها إشارة الوصول، ومازالت في وضعية غائمة أمامها إشارة مكورة، وقد أسرعت للاتصال من الهاتف الأرضي بالشركة المحلية التي تغذينا بباقة من الإنترنت كل شهرين مدفوعة الثمن مسبقاً ولكني لم أتلق رداً، بل جاءتني أسطوانة تفيد تعطل الخدمة، وهنا قررت أن أتصل عل مكتب صغير كنت أسدد لديه اشتراك الانترنت كل شهرين أيضاً، ويقدم لي خدمات أخرى مثل تسديد فاتورة الهاتف الأرضي الذي لم نعد نستخدمه، بل إننا لا نتذكر انه وسيلة تواصل من الأساس.
وحين طلبت من الموظف أن يستعلم عن باقتي المسبقة الدفع، فربما قد حدث خطأ ما أدى لفصلها، ضحك الشاب الصغير من الجانب الآخر واخبرني بمعلومة بالغة الخطورة أن هناك خللاً عالمياً بتطبيقات معينة في الانترنت، وقد نفقد اتصالنا بأحبتنا لمدة طويلة.
إذاً، فقد حان وقت الإشاعات، فنزلت أمام البناية التي اقطن بها، وسمعت أحد الشبان العابثين ينادي وسط الظلام الذي يلف المنطقة، تخيلوا ان الكهرباء مقطوعة ولكن خدمة الإنترنت لا تتوقف بسبب وسائل الطاقة البديلة المتعددة، وكان هذا الشاب العابث يهتف: قطعوا النت، الحرب على الأبواب.
إشاعة أُخرى سمعتها في غضون دقائق، ثم أنني استسلمت للأمر الواقع وابتعت بعض الشطائر من المطعم القريب من بيتي، وعدت لكي تهتف ابنتي الصغيرة بأن تطبيق التليجرام وتطبيق تويتر ما زالا يعملان، وان كل العالم قد هجموا عليهما، ولم تتوانَ ابنتي عن التواصل مع صديقاتها عبر تطبيق تليجرام.
لساعات انقطعنا عن العالم، وذلك لأننا فعلاً منقطعون وعلى أرض الواقع، ولكن الذي حدث أننا منقطعون عن الكذبة الكبيرة التي نعيش فيها وتوهمنا أننا اجتماعيون، ونؤدي واجبات التهنئة والتعزية والمواساة والاطمئنان على الصحة والدراسة والوظيفة من خلالها ودون أن نتحرك من مكاننا.
لساعات انقطعنا عن العالم الذي يجعلنا نجلس طويلاً ونتحرك قليلاً، ونلتهم الطعام السريع الغارق بالدهون والمركبات الغير صحية، لأننا لا نجد الوقت لكي نقف في المطابخ ولا لكي ننادي الجارة لكي تقوم بمساعدتنا في تنظيف أعواد الملوخية وتفريم السبانخ، وتقوير الكوسا والباذنجان، والجارة للأسف مشغولة مثلنا تماماً، والجميع يشعر باطمئنان عجيب للمطبخ البارد والأطباق المتفرقة، والطعام العديم الفائدة والطعم.
لساعات انقطعنا وعدنا لغرفة المعيشة التي لا تحتوي على مشاعر، فقط بعض الأرائك الجميلة اللون التي اشتريناها لأن فلانة ابتاعت مثلها ونشرت صورها، ليس هناك لمسة يد فنية للأم ولا للابنة، فلا أحد لديه الوقت ليطرز ولا يخيط مفرشاً، ولا حتى يصنع زهوراً من الورق المفضفض ويضعها في آنية فارغة بعد زخرفتها وتلوينها فتبدو مثل أجمل زهرية.
لساعات انقطعنا وعدنا لعالمنا الحقيقي الذي تهنا منه، عالمنا الذي أضعناه وما زلنا نعتقد أننا في عالم أجمل، وهكذا فنحن ركضنا نحو البديل، فأعلن تويتر زيادة في عدد رواده بالملايين، وخرجت شركة ماكدونالدز لتسأل شركة تويتر عن عدد وجبات الدجاج المقرمش التي تحتاجها لضيوفها الجدد الذين تعرف انهم لن يكون لهم بقاء طويلاً وسوف يطيرون إلى بيوتهم الأصلية بعد إصلاح الخلل.
تم إصلاح خلل التطبيقات وبقي الخلل في قلوبنا ونفوسنا وعقولنا وايدينا وأصابعنا ورقابنا وظهورنا، ولم يعد هناك سبيل للعلاج ولا الإصلاح، لأن الفساد والخلل في كل هذا لا يراه أحد، وإن رآه أحد فهو سوف يعتبره العالم الجديد المبهر الجميل الذي سحبَنا من عالمنا الواقعي الحقيقي الملموس والمحسوس.