خالد مشعل ومرجعات حماس: نظرات ووقفات لا بدَّ منها!!

الأحد 26 سبتمبر 2021 10:43 ص / بتوقيت القدس +2GMT
خالد مشعل ومرجعات حماس:  نظرات ووقفات لا بدَّ منها!!



كتب د. أحمد يوسف :

إن الأوضاع الأمنية والسياسية وحتى منظومة العلاقات العربية والإسلامية في المنطقة تتسارع بشكل يبعث على الخوف والقلق على مستقبل قضيتنا الفلسطينية، وأيضاً على طبيعة الاستهداف الذي قد يطال الإسلاميين وخاصة حركة حماس، فالتحالفات بين دول المنطقة أصبحت لها معايير مغايرة لكل ما كان سائداً تاريخياً من عقيدة أمنية وأفكار قومية وتوجهات عروبية وعقد اجتماعي بين أبناء الأمة فيما يتعلق بطبيعة الصراع مع إسرائيل؛ باعتبارها كيان استعماري استيطاني غاصب، وأن المطلوب هو تضافر الجهود لإزالته أو تفكيك منظومته السياسية. للأسف، تبدو  الحسابات اليوم مع الكثير من دول المنطقة مرتبطة بالموقف من إيران (مع أو ضد) وليس إسرائيل!! وكذلك من حيث اتجاهات العلاقة مع قطر وتركيا أو السعودية ودول خليجية أخرى.

هذه الأجواء تعيدنا -في معركة الحفاظ على الوجود- للبحث عن وسائل لتدبير مستقبلنا، والتخذيل عن أنفسنا من استهداف الأعداء والمتربصين بنا من الخصوم ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.

نعم؛ المسألة تحتاج إلى الكثير من الجهد وإعمال العقل للخروج برؤيةِ "أقل الخسائر"، عبر الانحناء للعاصفة بدل الانكسار والتفتت.

نداء المراجعات.. لماذا خالد مشعل؟

إن واحداً من بين الذين اعتدت على مناشدتهم للتحرك وإجراء ما نراه ضرورة من المراجعات هو الأستاذ خالد مشعل (أبو الوليد)؛ باعتباره أحد رجالات حركة حماس الأوائل ومن يُطلق عليهم اسم جيل "الآباء المؤسسون"، وهو من الشخصيات القيادية المخضرمة التي تتمتع برؤية ومواقف سياسية وازنة، وتحظى بحضور متقدم وشعبية واسعة بين النخب الفلسطينية. لذا، تأتي مخاطبتنا له بناءً على ما عهدناه عليه من براعة في التحاور مع إخوانه، وقدرة على الاستشراف والحسم واتخاذ الموقف، ولما له من تقدير واحترام كبيرين بين إخوانه من "سراة القوم" وكوادر حركة حماس.

 إنَّ ما أطرحه أخي خالد ليس جديداً، فلقد سبق لي أن تدارسته معك ومع آخرين من قيادات الحركة في الداخل والخارج قبل أكثر من عشر سنوات، وفي ظل ظروف سياسية وحركية محلية وإقليمية أفضل.

اليوم، أخي أبا الوليد.. أعيد عليك وعلى إخوانك في قيادة حركة حماس ما سبق لنا طرحه حول الحزب السياسي، وذلك من باب الأمانة والنصيحة والحرص على هذه الحركة الإسلامية، التي ما تزال تشكل أملاً ورافعة لمشروعنا الوطني، بعدما أخذت حالة التآمر والتكالب عليها تتعاظم، وأصبح الخطر الذي يتهددها له صوت مسموع ووقع خطوات لا يمكن تجاهلها أو قمع الحديث عنها بين نخب الحركة وكوادرها الواعية.

الجمع بين الدعوي والسياسي والعسكري

أخي أبا الوليد.. إن التجارب الإسلامية الناجحة للفصل بين الدعوي والسياسي، والتي شاهدناها في بعض دول المغرب العربي تُحفز على التفكير بمثل هذا التوجه، وكذلك فإن نجاحات حزب العدالة والتنمية في تركيا لقرابة العقدين من الزمن تُشجع هي الأخرى على سلوك هذا الدرب، والمضي قُدماً فيه.

لقد قدَّمت لك -أخي أبا الوليد- ولقيادة حركة حماس في نهاية عام 2006 مقترحاً أوليِّاً حول ضرورة إنشاء حزب سياسي للحركة أو تحول ذراعها وكتلتها في المجلس التشريعي "التغيير والإصلاح" إلى حزب سياسي، ولكن – للأسف - لم يكن هناك قناعة بالفكرة أو حتى استحسان لها، إذ كانت نشوة الانتصار بالكسب الانتخابي تحجب الرؤية لموجاتها العالية، وأنَّ أي مواجهة لها –آنذاك- كانت تبدو خاسرة. ومع ذلك، فأنا وحتى اليوم لم يتغير موقفي حول ضرورة قيام مثل هذا الحزب كمتطلب أساس للعمل السياسي، ولاعتبارات أمنية لا يمكن أيضاً تجاهلها، وخاصة حين نضع كلَّ بيضنا في سلة تنظيمية واحدة. لذا، فأنا ما زلت على ما آمنتُ به، منذ اللحظة التي قررت فيها حركة حماس دخول معترك العمل السياسي، بل بقيت أُذكِّر إخواني بهذه الفكرة من حين آخر.

ومع قناعتي المطلقة –أخي أبا الوليد- بضرورة عدم إشغال كل مكونات الحركة الإسلامية بمشهد الحكم والسياسة، وأهمية الاستفادة من تجارب شعوب عربية وإسلامية أخرى سبقتنا بمثل هذا الفصل بين الدعوي والسياسي والعسكري، وحقق بعضها النجاح والتمكين، إلا أن فضاءات الرؤية في ساحتنا ما تزال ضبابية، وهناك غالبية قيادية تتمنع لاعتبارات قد نتفهم بعضاً منها، وإن كان الكثير من الكوادر الشبابية عالية الثقافة غدت تؤمن بالفكرة، وتتحدث عنها، وتطالب بمثل ما ندعو إليه.

لماذا الحزب السياسي الآن؟

خلال الانتخابات التنظيمية الأخيرة والدورة التي سبقتها، ساد الكثير من الهرج والمرج صفوف حركة حماس، وتعالت أصوات البعض بضرورة المكاشفة والعمل على تحييد العسكريين، وعدم إشغالهم بما عليه أهل السياسة من لغة التناجي وطرائق "الَّلتّ والعجن" والخداع والمواقف المتقلبة، والتي لا تروق مساراتها وأساليبها لأن يكون "رجال المقاومة والعمل المسلح" طرفاً فيها.

أخي أبا الوليد.. في شهر فبراير 2016، نشرت مقالاً بعنوان "قضية برسم الحوار: حماس وإمكانيات الفصل بين الدعوي والسياسي والعسكري؟"، أشرت فيه إلى أن الحركة الإسلامية بشكل عام، وفي فلسطين على وجه الخصوص، هي اليوم بحاجة ماسة إلى إجراء مراجعات فكرية وإعادة بناء لهياكلها الحركية على ضوء المتغيرات المحلية والمستجدات الإقليمية والدولية، وهذا ما درجت عليه الشعوب والأمم، إذ أنها بين حين وآخر تقوم بمثل هذا الإجراء للحفاظ على حيوية مؤسساتها والتكيف مع المتغيرات. ففي الديمقراطيات المعاصرة، يتم ذلك من خلال العمليات الانتخابية المنتظمة في كل مؤسسات الدولة، إذ تَعرض الأحزاب والتيارات السياسية برامجها ورؤيتها للإصلاح والتغيير، وبناءً على ذلك تتم المباركة وإعلان القبول أو الرفض، والانتظار لجولة انتخابية قادمة.

وبما أن العملية الانتخابية في بلادنا معطلة وغير منتظمة منذ قرابة العقد ونصف العقد، لذا فإن علينا - نحن الفلسطينيين- أن نفكر بآلية أخرى لإجراء المراجعات، وتجديد الأدوات، كي نستبين وقع خطانا على الطريق، والتحقق من أن المسيرة تمضي بنا في الاتجاه الصحيح أو تأخذنا بعيداً عن الجادة إلى مسارٍ خاطئ تتقاذفنا به عاتية الريح.

الإسلاميون في فلسطين: العثرات والاستهداف

لم تكن حركة حماس التي قادت عمليات المواجهة مع الاحتلال في الانتفاضتين الأولى (1987) والثانية (2000) بعيدة عن متابعة سير المتغيرات التي تجري في المنطقة، الأمر الذي شجَّعها لأن تخوض غمار تجربة الحكم عبر الانتخابات، بعد أن اطمأنت لرصيدها الكبير داخل الشارع الفلسطيني، والذي أظهرتها بجلاء نتائج تقدمها في استطلاعات الرأي أو كسبها الملحوظ في الانتخابات المحلية كالبلديات واتحادات الطلاب والنقابات العمالية والتعليمية، وأيضاً دخول الإسلاميين في عالمنا العربي ومنطقة الشرق الأوسط بقوة على خط المشاركة والعمل السياسي.

ومما لا شكَّ فيه، فإن حركة حماس وبعد أن حصلت على تطمينات كافية بضمان نزاهة العملية الديمقراطية، تشجَّعت على خوض غمار التجربة؛ أملاً بتحقيق هدفها في "الإصلاح والتغيير"، وحمايةً لظهر المقاومة من الطعن والاستهداف.

لا شكَّ أن الحركة قدَّمت الكثير من الوعود في برنامجها السياسي الذي خاضت فيه انتخابات 25 يناير 2006، والذي أخفق للأسف بعد سنوات من المدافعة والاجتهادات السياسية المتعثرة في بناء شبكة من العلاقات الإقليمية والدولية، وترك انطباعاً عاماً بأن الحركة غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها، كما أنها عاجزة عن تحقيق ما قطعته على نفسها من تعهدات ووعود، وذلك لأسباب داخلية وأخرى إقليمية ودولية قد يتفهمها الكثيرون.

وفيما نحن اليوم نواجه حصاراً إسرائيلياً قاتلاً، وأشكالاً من التواطؤ الإقليمي والتآمر الدولي، الذي يستهدف بمجموعه استنزاف رصيدنا الشعبي، نتيجةً لتفشي البطالة بنسبة عالية (60%) وخاصة بين الشباب، وتقليص الرواتب وتدني مستوى الخدمات، والنقص الحاد في الأدوية والمستلزمات الطبية، وتهالك البنية التحتية لكثير من المرافق العامة، وتراجع القطاع الصناعي نتيجة للحروب والعدوان الإسرائيلي  المتكرر، واستمرار دولة الاحتلال في حظر الكثير من المواد الخام بذرائع أمنية وأخرى عقابية، والإجراءات التعسفية على المعابر الحدودية، وحرمان الآلاف من الطلاب والمرضى وأصحاب الإقامات في الخارج من مغادرة القطاع بشكل مريح وانسياب سلس...الخ.

 وفي ظل كل هذه الظروف الصعبة معيشياً، والتي يتراجع فيها رصيد حركة حماس شعبياً وسياسياً، تصبح -أخي أبا الوليد- بعض الأسئلة المحذورة والمحرَّم طرحها في العلن مشروعة، مثل: كيف يمكن لحركة حماس أن تستعيد خطواتها ومكانتها الشعبية الواسعة من جديد؟ وهل هناك بدائل أو أدوات أخرى لتجاوز حالة الانكفاء والعجز وتخطي حائط الصد والالتفاف حوله؟ وهل حركة حماس ما تزال أمل الشارع الفلسطيني أم أن حضورها سيبقى كالآخرين؛ "شاهد مشفش حاجة"؟! وما هي رؤيتها لمستقبل الصراع والمواجهات المسلحة بعد أريع حروبٍ عدوانية أكلت الأخضر واليابس من ربوع بلادنا وقطاعنا الحبيب؟

بالطبع، هناك أيضاً من يتساءل بتحسرٍ وبراءة: بعد قرابة العقد ونصف العقد من محاولات الخروج من نفق الحصار والتشظي والانقسام والتصدع الذي أصاب بيتنا الفلسطيني، هل ما تزال حركة حماس قادرة على تسويق مشروعها الإسلامي ورؤيتها الوطنية في التحرير والعودة؟ وهل يمكن استمرار النظر إلى تجربتها بأنها ما تزال على المحك، وأن هناك فرصةً للتدارك وحماية سفينة الوطن من الترنح والغرق؟ وإذا كان الأمر كذلك؛ كيف؟

نحن اليوم –أخي أبا الوليد- أمام تحديات كبيرة؛ أهمها محنة المشروع الوطني، والانقسام الذي أثقل بتبعاته كاهل شعبنا وقضيتنا، وأوشك أن يقصم "ظهر البعير" الذي يحمل مئونة ما يقيم أودَ وجودنا، وأوهن بتداعياته شوكتنا القتالية، وأضر بعروتنا الوثقى ورؤيتنا النضالية.

أخي أبا الوليد.. لا شكَّ بأن ما آلت إليه أحوالنا في الحركة الإسلامية ليس بالمشهد الذي كنا نطمح لرؤيته. لقد كان سقف طموحاتنا يتلألأ في الأعالي، وكانت أحلامنا وردية، فيما كنا نتطلع لخدمة شعبنا في أجواء أفضل للتعبئة والتبشير بقرب  الانتصار، وتحقيق أمنياته في الحرية والأمن والازدهار.

للأسف؛ كان حجم التآمر على تجربتنا الوليدة كبيراً، أما خبراتنا في المناورة وامتصاص الصدمات فكانت محدودة، ولذا وقع المحذور عام 2007، وأدركنا بأننا بحاجة ماسة إلى المراجعات، ومعاودة النظر وإعمال الفكر والاستدراك، وهذا ما يحدث أحياناً، باعتبار أن "لكلِّ جوادٍ كبوة". ومهما كانت الانتكاسة وخيبة الرجاء، فإن فرص النهوض وتجاوز عثرات ما نحن فيه تبدو متاحة، ولا تقع في دائرة المستحيل.

حماس: بين الأمس واليوم

أخي أبا الوليد.. وكما لا يخفى عليك وعلى إخوانك في قيادة الحركة فإن حماس كانت تتمتع برصيد شعبي واسع قبل أن تلج عالم الحكم والسياسة، إذ كانت إنجازاتها على الأرض وفي مقاومة الاحتلال محل تقدير وإعجاب من الجميع، وتحظى أنشطتها الدعوية والتربوية وتحركاتها المجتمعية بكل المؤازرة والتأييد، وكان ارتفاع منسوبها القيمي والأخلاقي فوق الشبهات، لذا منحها الشعب في الانتخابات التشريعية ثقته الكاملة، وفازت الحركة بنسبة مرتفعة فاقت حساباتها كل التوقعات، ومكَّنتها من تشكيل الحكومة بمفردها، حين امتنع الآخرون من الدخول في شراكة سياسية معها.

وبعد تشكيل الحكومة، بدأ العدُّ التنازلي، حيث تكاثرت الاضطرابات والمناكفات الإعلامية، وتعددت أشكال التحريض والمواجهات الداخلية من مكر ذوي القربى إلى الاجتياحات الإسرائيلية، وتمَّ فرض الحصار الظالم على قطاع غزة.

 كان المطلوب –أخي أبا الوليد- هو إشغال حماس عن مشروعها في الإصلاح والتغيير، وإظهارها أمام شعبنا الفلسطيني والعالم بمظهر العاجز عن القيام بواجباته!! وأن اختيارها في الانتخابات ورهانها على حماس كان خطئاً يتوجب الرجوع عنه.

لقد وضعت حركة حماس كل ما لديها من طاقات أبنائها، وسخَّرت إمكاناتها في الداخل والخارج، بهدف التمكين لتجربتها، والقيام بكل متطلبات الحكم، وهذا ما تسبب في تراجع مشروعها الدعوي، وفقدان سيطرتها على شبكة المساجد والدروس الدينية والتربوية التي تُدار من خلالها، وفتح المجال للآخرين للتمدد في ساحاتها، وكسر احتكارها للخطاب الإسلامي ومنافستها عليه.

كما أن التوسع في العمل العسكري التي تقوم به كتائب القسام قد شكَّل هو الآخر مسار استنزاف للطاقات، التي كانت مفرَّغة بشكل كامل في مجالات العمل الدعوي والتربوي والإغاثي، ووجدت في ساحة الفعل المقاوم إغراءات أفضل مادياً ودينياً، فصار لهذا المجال الأولوية بين قيادات الحركة وكوادرها.

أما العمل السياسي، فقد تسابق إليه - في البداية - الكثيرون من أبناء حركة حماس، حيث العمل الحكومي الذي يوفر الوظيفة والوجاهة والمكانة بين الناس. وفي ظل هذا التموج وحركة التنقلات، التي طالت الأفراد والقيادات، اختلت موازين الضبط والربط، وتداخل الدعوي بالسياسي كما العسكري!! وأصبح الشيخ الذي نريده على المنبر للوعظ والإرشاد وزيراً أو نائباً أو قائداً عسكرياً لا يُشقّ له غُبار!! أما الشاب الداعية الغيور فقد استدار هو الآخر إلى متطلبات حياته الدنيا يطلب نصيبه منها، بعدما فقد القدوة والمثال فيمن سبقه من القادة والأئمة الأعلام.

نعم؛ برز إلى السطح خلل كبير أفرزته عمليات التسمية والتوصية والتكليف والتوظيف، حيث وصل كثيرون من خلالها بدون أهلية أو استحقاق إلى مبتغاهم وحدهم.

 نعم؛ لقد درجت ساحتنا الفلسطينية لتقديم أصحاب الولاء على الكفاءة، وهذا ما سبقتنا إليه حركة فتح، فإذا بنا كإسلاميين – للأسف – نحذو حذوها، ولكلٍّ منَّا نصيبه من الحجج والأعذار.

لكلِّ ما سبق أخي أبا الوليد، هذه هي أحوالنا، وهذا هو توصيفنا للواقع المرير، ونأمل أن يمتلك كل إخواننا في القيادة معك ومن حولك سعة الصدر والشجاعة ليكون مثالهم الإمام المُبجَّل أحمد بن حنبل (رحمه الله)، حين قال: "لا نزال بخير ما كان في الناس من يُنكر علينا".. فنحن وإن كنَّا بهذا الكلام إنما نحاول وضع النقاط على الحروف، فإننا نرجو أن يتجاوب الركب معنا، لننتشل الوطن من الغرق وتمضي بأمان سفينتنا.

اليوم ما المطلوب عمله؟

كما سبق لي أن قلت أخي أبا الوليد: إنني في عام 2006 طرحت فكرة تدشين الحزب السياسي، للحفاظ على مقدرات الحركة ورصيدها الأخلاقي في أذهان قواعدها الشعبية. لقد آمنت دوما بأن للحزب السياسي مهمات محددة وأهدافاً واضحة، ويمكن أن يقوم بها أشخاص بمواصفات معروفة، ولديهم إمكانيات ومهارات متميزة، وليس بالضرورة أن يكونوا من أئمة المساجد وعُمَّارها النجباء. ولكن الفكرة – آنذاك – لم تلقَ قبولاً لدى قيادات الحركة، وإن تفهَّم البعض منهم ذلك.

وفي إبريل عام 2012، نشرت مقالاً بصحيفة "الحياة" اللندنية بعنوان "الإسلاميون في فلسطين: آن الأوان لإنشاء حزب سياسي"، وقد ورد في بعض شروحاته التالي: "إن الحزب المطلوب يجب أن يكون واجهة للعمل السياسي مفتوحةً على الجميع، ويتوجب على رجالاته بذل كل الجهود لجمع كل الوجوه الوطنية المخلصة وحشدها في جبهة واحدة، بغض النظر عن أيديولوجياتها السياسية وتوجهاتها الفكرية وأدواتها النضالية، لتمكين شعبنا من تحقيق طموحاته في التحرير والعودة.. كما أن الحزب المطلوب يمكنه كذلك العمل في إطار شراكة سياسية مع الآخرين، بما يعزز قدرات مشروعنا الوطني للنهوض بالحالة المجتمعية لشعبنا في الوطن والشتات".

عاودت مراجعة بعض الإخوة في قيادة الحركة بعد مضي ست سنوات من اختبارات مشهد الحكم والسياسة، ولكن كان الجواب كسابقه، وهو الخشية على مستقبل الحركة والخوف من الانقسام، بالرغم أن تداعيات ما يحدث لا تبشر بخير، وأن علينا اتخاذ القرار الصعب في سبيل النجاة بالقافلة، وعدم تركها لقمة سائغة للمتآمرين، ونهباً للطامعين بلحومنا وصفحات مجدنا التليد، والمتربصين لكسر شوكة المقاومة وفرسانها الميامين.

اليوم، وبعد الدرس الذي تعلمناه من السنوات العجاف لمشهد الحكم والسياسة، فإنني أعيد طرح الفكرة عليك أخي خالد (أبو الوليد) وعلى المخلصين من إخوانك، ولكن بقناعة ووعي أكبر واستحسان وإدراك أفضل، حيث إن لدينا وأمامنا تجارب لإسلاميين قاموا بتأسيس أحزاب سياسية، وعملوا على دعمها بشكل مباشر أو من وراء حجاب في أكثر من بلد عربي وإسلامي.. والشاهد أن هذه الأحزاب إذا ما أبدعت ونجحت في مهماتها، فإن ذلك أدى إلى تعاظم كسب الحركة الأم والارتقاء بمكانتها، وإذا لم تكلل برامجها بالنجاح ولم تكسب الانتخابات، حافظت على استقرار البلاد، وعادت تكرر المحاولة من جديد.

إن تجربة "حزب العدالة والتنمية" بالمغرب لعشر سنوات في مشهد الحكم والسياسة هي النموذج الأبرز للاستشهاد به، رغم تراجعها في الانتخابات الأخيرة، إذ إن الإسلاميين في المغرب بشكل عام يمثلون الطبعة العربية لتجربة تركيا أردوغان.

  نعم؛ نحن ندرك بأن لكل بلد خصوصيته، وتجربتنا كشعب تحت الاحتلال تختلف بالكلية عن حركة تعيش في بلد أحواله مستقرة، وأن هناك قناعة وانسجاماً للعمل مع القصر أو النظام السياسي القائم، وَفق تفاهمات أضحت هي جزءاً من أدبيات الحركة والحزب.

إن أمامنا تجارب في بلدان مختلفة بعضها إسلامية مثل ماليزيا وإندونيسيا نجحت فيها مثل هذه التجارب، وبعضها كانت في مرحلة التحرر، ولكنها أعطت للسياسة دورها، ولم يقتصر جهادها فقط على البندقية، كما أنها أوكلت لكل جبهة من يسدد فيها ويقارب؛ حيث إن لساحة الجهاد فارسها المغوار من المناضلين والثوار، وإلى ساحات المساجد ومنابرها العوالي دعاتها الأغيار من أهل العلم وطلابه من المصطفين الأخيار، كذلك فإن لميادين السياسة وحلباتها رجالها من أهل الحنكة والنباهة ممن خبروا هذا المجال أو درسوه، وتنطبق عليهم مقولة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) "لست خبَّاً ولا الخبُّ يخدعني".

أخي أبا الوليد.. لقد توسعت حركتنا كثيراً، وتضخمت فيها المسئوليات وتعاظمت الأعباء، وناء بكلكل قادتها ثقل المهام وتعددها، وآن للبعض أن يتخفف من بعض الأحمال، ليجد وقتاً يعطيه لأهله وأقاربه وجيرانه، والتركيز على الملفات التي بين يديه، وليس أن يحمل أَسفاراً بين منكبيه، يقيم معها الليل ولا حلَّ لديه من وحل ما نحن فيه.

آن الأوان كي تتوزع الأعباء على طاقات أهل العلم والاختصاص، وأن يتفرغ كلٌّ لساحته ضمن ناظمة لا تسمح بتغول جبهة على أخرى، ولكنها تسمح بتوزيع عادل للمناصب ومواقع العمل وفق الطاقات والإمكانيات، وفي ضوء الرؤية الاستراتيجية التي رسمنا خطوطها العريضة، ونعمل جميعاً مجتهدين وفق محدداتها.

آمل أن تعطي أخي أبا الوليد أنت وإخوانك في القيادة الفرصة لمفكري الحركة وأصحاب التجربة السياسية فيها من التحرك ومباركة ما نراه حتمية للبقاء في مشهد الحكم والسياسة، ألا وهو إنشاء "الحزب السياسي".

إن علينا النظر والتدبر في تجربة إيرلندا الشمالية، حيث إنها تحتوي في جوانب منها على ما يمكن محاكاتها فيه، حيث عمل العسكر والسياسيون في ساحتين مختلفتين، وكانت معطيات الحصاد في النهاية واحدة، وهي الحرية والاستقلال.

من الجدير ذكره، أن الثابت الأكيد والحاسم لأي حركة، هو متانة القاعدة الشعبية واتساع ساحة الأنصار، وأن العمل لكسب الجمهور الفلسطيني واستعادته من جديد يستوجب مثل هذا التحرك، والعمل وفق استراتيجية جديدة تقوم على أساس واحد، وهو ترميم العلاقة مع الشارع الذي يمثل حاضنتنا الشعبية بأيِّ ثمن، وأن تقديم التضحيات في هذا الاتجاه هو واجب، بل هو حراك بالمعنى الشرعي "واجب الوجوب"؛ وكما تعلمنا من قواعد الفقه وأدبياتنا الإسلامية، فإن "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". إن هذه الدعوة للفصل بين الدعوي والسياسي والعسكري تبقى - حتى الآن- مجرد مقترح أو فكرة للتداول والحوار، ولا تمثل رؤية متكاملة الزوايا والأبعاد، فهذه مسألة متروكة للمراجعات والمؤسسات الحركية صاحبة الاختصاص للبحث في تفاصيلها.

وللحقيقة أقول: إن هذه الفكرة ما تزال تراوح مكانها، وتدور حولها المواقف بين التأييد والرفض على المستوى الرسمي داخل مؤسسات الحركة وبين قياداتها، وإن كان الكثير من جيل المثقفين والقيادات الشابة لا يعارض ذلك، وربما لو جرت المراجعات التي ننادي بها فستتوسع – بالتأكيد - المدارك لقبول الفكرة، وإيجاد بيئة نخبوية حاضنة لها.

باختصار: إذا تحققت فرص إنجاز تهدئة أو هدنة فسوف تمهد الأرضية لفكرة الحديث  -وبنبرة عالية- عن الحزب السياسي، وسيكون الجدل أقل وتيرة منه الآن.. ولذلك - وفي سياق النصيحة - أقول لإخواني: خذوا أمر الحزب السياسي بقوة ولا تتردوا، فالجهاد بالكلمة والموقف لا يقل أهمية وفاعلية عن جهاد الرصاصة والسيف، وفي كلٍّ خير.

ولعل مقولة يعقوب (عليه السلام) "يا بني لا تدخلوا من باب واحد، وادخلوا من أبواب متفرقة"، لها كثير من الدلالات حول ما لنا من النية والقصد.

* صفحات من كتاب سيصدر قريباً بعنوان "المحارب.. خالد مشعل كما عرفته".