منذ ان وقفت السلطة الفلسطينية وقفة المتفرج غير المبالي، وعدم عمل أي شيء جدي امام الهجمة الصهيونية على حي الشيخ جراح والمسجد الأقصى، وعدم التحرك ساكنا خلال معركة سيف القدس، بدأ شعبنا الفلسطيني بالتململ من أداء هذه السلطة الفارغة وزمرتها الحاكمة، التي منحها شعبنا فرصا عديدة، وصبر عليها صبر أيوب، علها تتراجع عن اخطائها وخطيئتها الكبرى بالتنسيق الأمني، وتعود الى سلوك طريق الوطن والتحرير، ليتلقى منها شعبنا الفلسطيني خيبة بعد أخرى، وصفعة وراء اختها في كل مرة.
واتى اغتيال المناضل الشهيد، نزار بنات، من قبل أجهزة السلطة الأمنية، بعد فضيحة اللقاحات الفاسدة المنتهية صلاحياتها، وما مثله هذا الاغتيال من توحش وهمجية، اتى كالقشة التي قسمت ظهر البعير، فتحول التململ الى صرخة مرتفعة واضحة كالشمس، ان “يا عباس خذ حراميك وارحل عنا”. لقد توجس شعبنا الفلسطيني بحسه الفطري ان اتفاقيات أوسلو لم تكن تمثل حتى أدني طموحاته، ولكنه وثق في تلك الفترة بقيادة حركة “فتح” وزعيمها أبو عمار، واعطاهم الفرصة لإثبات صحة خياراتهم السياسية ولتحقيق وعودهم الرنانة. وها ان الوقت قد اثبت ان ما حذرنا منه احرار الشعب منذ التوقيع على هذه الاتفاقيات مع الكيان، عن خطر التعامل مع هذا العدو الغادر، والحذر من نهج المفاوضات والتسوية مع هذا العدو الفاشي، الذي لا يوجد ضمن رؤيته وايدولوجيته ومستقبله الا نهاية للشعب الفلسطيني برمته، ونهاية لقضيته الوطنية، واخراج الشعب الفلسطيني من التاريخ، وإقامة “إسرائيل” اليهودية الكبرى.
لقد مثلت أوسلو قمة ذكاء المستعمر الصهيوني، التي استمدها من تاريخه كعصارة لتجربة الامبريالية والاستعمار الغربي العالمي في قمع الشعوب، وفشلهم في إيقاف وهزيمة مسيرتهم نحو الحرية والتحرر، بان اخرج الياته العسكرية فقط من الضفة الغربية ومن قطاع غزة، واستبدلها بشريحة كمبرادور تافهة في تعاملها وفي افكارها، لها قابلية للاستعمار، تابعة له وحامية ضامنة لاستمرارية مصالحه. هذه الشريحة السياسية الثقافية المستلبة، التي تمثلها زمرة أوسلو المهيمنة، التي انشأها الكيان الصهيوني، والتي تستمد سلطتها من الاتفاقيات المبرمة معه، همها الوحيد هو الاستبداد في الحكم والاستفراد بالسلطة، وتضخيم وضعها المالي والطبقي، والتوغل في الاستلاب والتبعية، والتي ترفض مواجهة المستعمر الاحلالي، والتحريض العلني عليه، وتتخفى بخطاب خادع تحت غطاء السلم والتسامح والتعايش الإنساني الحضاري.
أدرك الكيان الصهيوني بدهاء المستعمر انه لن يتمكن من تصفية القضية الفلسطينية بالوسائل العسكرية، خصوصا بعد الانتفاضة الأولى وما زعزعته في بنيان الكيان، فلجأ الى استعمال خطط ووسائل بديلة استعارها من دفاتر الاستعمار الغربي القديم وتجاربه القمعية الوحشية بشعوب بلدان العالم النامي، وذلك بزرع الاستعمار الفكري عن طريق وكلاء له، تتحدث باسم الوطن، ولكن ولاؤها للمستعمر. فقام بإعطاء سلطة شكلية لهذه الطغمة الخانعة والنخبة التي انشئها، وسمح لها باستعمال النداءات الوطنية الفارغة من الفحوى للاستهلاك المحلي وإشاعة البلبلة والوهم، ووضع الكراسي والمناصب باسمهم وبيديهم، ولكن السلطة الفعلية والقرارات السيادية والثروة الحقيقية تبقى بيده وحده. والأخطر من الاحتلال الصهيوني المباشر هو السيطرة بواسطة الطابور الخامس، فتمكنوا بذلك من ادخال الفكر الاستعماري والقبول به الى داخل كل مؤسسة من مؤسسات الوطن الفلسطيني برمته، الثقافية، والاجتماعية، والسياسية، والتعليمية، والصحية، حتى التقاليد والعادات واللغة لم تنج من تأثيرهم المباشر.
فأصبحت المهمة الأساسية والهدف المباشر لهذه الشريحة المستلبة الموالية للاستعمار هي قمع المقاومة وفكرها، وهدم روابط الشعب ووحدة الصف لأبناء هذا الوطن، والعمل على تحقيق اهداف المستعمر الصهيوني واربابه الامبرياليين في الغرب الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والامنية. فالوضع الوطني ازداد سوء بشكل خيالي بعد أوسلو، لان هذه الاتفاقات قد البست الاستعمار الصهيوني الاحلالي ثوبا جديدا بدرزة فلسطينية وغطته بعباءة وطنية مزيفة مصطنعة. والاهم هو قتل والوعي والعلم الثقافي الفلسطيني، وإشاعة مفاهيم ولغة جديدة تتماهى مع ثقافة المستعمر وأهدافه في نشر روح اليأس والاستهلاك والجهل واللامبالاة والخوف والتشرذم. ومن هنا يجب البدء لفهم عملية اغتيال المناضل نزار بنات الذي عاش حرا ومات شهيدا.
فسياسة الاستعمار واذنابهم تأخذ موقف عدائي عميق من المثقفين ناشري الوعي والثقافة الوطنية. فالاستعمار يؤمن ان المثقف الوطني يحمل فكرة التمرد والعصيان والثورة والتحرر والمطالبة بالعدل والمساواة، فيعملون على شراء ذمم هؤلاء ومن عصي على الشراء عملوا على محوه بالعنف الوحشي ليخيفوا الاخرين، ويحاولوا بكل ما أوتي من قوة وذخيرة على استئصالهم من الوجود بشكل تام. وهذه الفكرة ليست جديدة، بل هي قديمة قدم الاستعمار. فقد أرسل أحد القادة المستعمرين الاسبان عند استعمارهم البشع لأمريكا اللاتينية تقريرا يفاخر به الى ملك اسبانيا يقول فيه، “انه عامل المتعلمين من أبناء البلاد معاملة العصاة وقضى عليهم قضاء مبرما ومحاهم محوا ليستأصل بذلك فكرة التمرد عند شعوبهم.” وبنفس الطريقة تعامل العنصريين البيض مع “العبيد” السود في أمريكا الشمالية، حيث كان ممنوعا منعا باتا تحت طائلة التعذيب والاعدام ان يتعلم “العبيد” القراءة والكتابة، ومن علم اسودا من البيض القراءة والكتابة كان يعاقب بالسجن والجلد. وهذه هي أحد اهداف اغتيال المناضل الشهيد نزار بنات، قتل الكلمة الحرة التي تقول الحقيقة وتنشر الوعي الوطني ضد الاستعمار الصهيوني ووكلائه المحليين.
هذه هي اهداف السلطة اللافلسطينية وأجهزتها الامنية، ان يعملوا على تحويل بنات وابناء الشعب الفلسطيني وشبابهم الى متعلمين غير مثقفين، فيصبح تعليمهم ضيقا بدون ثقافة ليتحولوا الى الآلات صماء بكماء بيد المستعمر، فيصبحون مثل المسامير المدقوقة في لوح خشب، او عجلات لسيارة مسيرة نظام قيادتها بيد الاستعمار نفسه، كما حصل في اشتراك طلاب من جامعة بيرزيت بمساعدة الأجهزة الامنية في قمع المتظاهرين. فاذا رضي الشعب الفلسطيني بهذه النهاية، عليه السكوت والخنوع والقبول بما يحصل لهم، وان كانوا احرار، ذويي كرامة كما نعهدهم دائما وابدا خلال تاريخهم العريق، عليهم ان يسقطوا هذا الطغمة الحاكمة، التي أصبحت احتلالا مباشرا صهيونيا وجب التخلص منه. وإذا بقيت حركة فتح تتمسك بهذه القيادة وتحميها، وقد سمعنا التهديدات التي أطلقتها بعض هذه القيادات باسم فتح ضد شعبنا، والتي تدل ان هذا النهج مستمرا وسيستمر، فيصبحون بذلك من نفس صنف ونوع وفي صف هذه الزمرة التي تقودهم نحو الخيانة، وتحولهم الى قتلة لشعبهم. يجب علينا البدء بالتعامل مع هذه السلطة كما تعاملت القوى الوطنية اللبنانية مع قوات لحد الخائنة. وقد اعذر من أنذر.
كاتب فلسطيني