منذ قيامها في العام 1948، ما تزال دولة الاحتلال الإسرائيلي تقترف أبشع الجرائم وأعنفها، بحق الشعب الفلسطيني، وعلى اختلاف فئاتهم العمرية وشرائحهم الاجتماعية. فدولة الاحتلال تعتبر الأمن أساس وجودها، وتؤمن أيضاً أن الأمن كفيل بديمومة احتلالها للأراضي الفلسطينية – على حد زعمها- وقد خيم على عقلها أن التخلص من الآخر أو على الأقل ردعه واعتقاله وسلب حريته هو الوسيلة الأفضل، والأكثر ضمانة، لتحقيق أمنها والحفاظ على وجودها واستمرار احتلالها. دون أن تولي -في تطبيقها لنظريتها الأمنية - أي اهتمام لكرامة الإنسان الفلسطيني وحقوقه الأساسية، ولتحقيق ذلك المراد، اعتمدت الاعتقالات نهجاً منظماً وممارسة مؤسساتية ووسيلة للقمع والإرهاب وبث الرعب والخوف في نفوس الفلسطينيين، وكبح إرادتهم ومقاومتهم، في إطار سياسة ثابتة، لاسيما بعد احتلالها لباقي الأراضي الفلسطينية في الخامس من حزيران عام 1967، حتى أضحت الاعتقالات جزءًا لا يتجزأ من فلسفة الاحتلال وسلوكه اليومي في التعامل مع الفلسطينيين. وباتت الاعتقالات جزءًا أساسيًا من منهجية الاحتلال للسيطرة على الشعب الفلسطيني، وجعله الوسيلة الأكثر قمعًا وقهرًا وخرابًا بالفرد والأسرة والمجتمع الفلسطيني.
ومن خلال ما نرى ونشاهد، فقد أصبحت الاعتقالات الإسرائيلية، جزءا من حياة الفلسطينيين اليومية، إذ لا يكاد يمضي يوم واحد إلا وتسجل فيه اعتقالات، تطال كافة فئات وشرائح المجتمع الفلسطيني، ذكورا وإناثا، صغاراً وكباراً. فلم تعد هناك عائلة فلسطينية واحدة، إلا وقـد ذاق أحد أفرادها مرارة السجن. وفي حالات عديدة اعتقلت العائلة بكامل أفرادها، وفي مرات كثيرة استخدم الاحتلال الاعتقال والاحتجاز كوسيلة للعقاب الجماعي والانتقام، أو للإذلال والاهانة، أو للضغط والمساومة والابتزاز. حتى بتنا نُطلق على فلسطين: بلد المليون أسير ومعتقل.
ومما لا نشك فيه أن أخطر ما في عمليات الاعتقال هو ذاك التلازم بين الاعتقالات والتعذيب، حيث أن كافة المعطيات والوقائع تؤكد على أن جميع من مرّوا بتجربة الاعتقال، من الفلسطينيين، كانوا قد تعرضوا - على الأقل - إلى واحد من أحد أشكال التعذيب الجسدي أو النفسي والإيذاء المعنوي والمعاملة القاسية، مما يلحق الضرر بالفرد والجماعة، ويعيق من تطور الإنسان والأسرة والمجتمع الفلسطيني.
ومن المؤكد أن سلطات الاحتلال تلجأ إلى الاعتقالات بمعزل تام عن قواعد القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، ولا تلتزم كذلك بالضمانات الخاصة بحماية السكان المدنيين، والقواعد الناظمة لحقوق المحتجزين وأوضاعهم، وتُصر دوماً على معاملتهم وفقاً لقوانينها العسكرية وإجراءاتها الأمنية ورؤيتها السياسية، ومفهومها لهم كـ "مجرمين وإرهابيين" دون الاعتراف بهم كمناضلين من أجل الحرية، مما انعكس سلباً على ظروف احتجازهم وآلية التعامل معهم وطريقة معاملتهم، كما وسعت سلطات الاحتلال إلى الانتقام من عائلاتهم وفرض عقوبات جماعية عليهم. إذ ترى سلطات الاحتلال أن عقاب جسد الأسير، يمتد إلى الجسد الفلسطيني العام، مما يذكرنا بحديث الفيلسوف الفرنسي "ميشيل فوكو" عن مبدأ الضبط الاجتماعي العام، الذي يؤمن "امتداد السيطرة والسلطة من جسد السجين المُعذب إلى جسد المجتمع". لذا فإن آثار السجن والاعتقال لا تقتصر على المعتقلين في سجون الاحتلال، وانما تمتد وتشمل الدوائر الاجتماعية، فأفراد الأسرة والعائلة وحتى الأصدقاء والجيران، هم أيضا ضحايا الاعتقالات، ويعانون آثارها وعواقبها، بشكل مباشر أو غير مباشر.
لقد عشت تجارب مريرة، واستمعت لشهادات أليمة روت بشاعة الاعتقال والسجن وما يصاحبهما من تعذيب وحرمان وألم، وقرأت تجارب لا يمكن تصورها أو مجرد تخيل حدوثها، تلك التي وثقتها ألسن الأمهات والآباء والزوجات والفتيات والأبناء الذين عانوا الاعتقال، أو تضرروا من آثاره جراء اعتقال أحبتهم وأفراد عائلاتهم. لذا فإننا ندرك أن الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين ليسوا وحدهم ضحايا الاعتقال، وانما عائلاتهم، هم ضحايا مثلهم.
فسلطات الاحتلال دوما ما تلجأ إلى كثير من الاجراءات الانتقامية المباشرة بحق اهالي الأسرى كوسيلة للعقاب الجماعي وإلحاق الضرر المتعمد بهم ومحاولة لردعهم مثل: سياسة هدم البيوت على خلفية نشاط أحد أفراد العائلة في أعمال مقاومة ضد قوات الاحتلال، مما أدى إلى تشريد آلاف العائلات الفلسطينية وإلحاق الضرر بهم. وهذا يشكل جريمة حرب وفقا لما هو مُعرف في اتفاقية جنيف الرابعة.
وكذلك منع الزيارات وحرمان الأهالي من رؤية أبنائهم المعتقلين، تحت ذرائع مختلفة ومنها بذريعة ما يُسمى "المنع الأمني"، بما يخالف كافة المواثيق والأعراف الدولية وخاصة اتفاقية جنيف الرابعة، التي كفلت لكلا الطرفين، الأسير وذويه، حق التواصل والالتقاء على فترات منتظمة، فيما ما يزال هناك الآلاف من ذوي الأسرى وأقربائهم من الدرجة الأولى ممنوعين من الزيارة، الأمر الذي يمثل معاناة مركبة تثقل كاهل الأسرى وأقاربهم في آن واحد، وتشكل ضربة نفسية قاسية لكلا الطرفين.
وقد استغلت سلطات الاحتلال جائحة "كورونا"، ووظفت هذا الفايروس لمعاقبة الأسرى وذويهم ومفاقمة معاناتهم، فأوقفت الزيارات منذ انتشار "الجائحة" في المنطقة في آذار/مارس من العام الماضي، ومن ثم سمحت بالزيارات لأهالي القدس والضفة والداخل ضمن شروط وعراقيل عديدة ودون انتظام، فيما ما يزال المنع ساريا والزيارات متوقفة لأهالي قطاع غزة، منذ انتشار الجائحة قبل خمسة عشر شهرا، دون أن توفر آليات بديلة أو وسائل جديدة للتواصل الانساني ما بين اسرى غزة وذويهم، ودون مراعاة الضغوطات النفسية والقلق المتزايد خلال فترة العدوان الأخير على قطاع غزة، مما يُفاقم من معاناة الطرفين ويزيد من قلق كل طرف على الآخر.
وخلال السنوات الأخيرة، عادت سلطات الاحتلال وصعّدت من سياسة "الحبس المنزلي"، ولجأت إلى افتتاح مئات السجون الجديدة التي لم نكن نتوقع نشوئها أو افتتاحها، لتشكل اليوم ظاهرة، وظاهرة خطيرة، آخذة بالاتساع والازدياد. إذ لم تعد بيوت الأهالي الآمنة ملكاً لساكنيها وخاصة المقدسيين، حين يفرض عليهم أن يجعلوا منها سجوناً، ولمن ؟ لأبنائهم وبناتهم وخاصة الأطفال منهم ولا أحد سواهم. مما جعل مئات البيوت سجونا، وحولّ الآلاف من الأهالي وأفراد العائلات المقدسية الى سجانين على أبنائهم وأحبتهم، وحراس ومراقبين على من تصدر المحاكم الإسرائيلية بحقهم حكما بـ "الحبس المنزلي"، حيث يُمنع الشخص من مغادرة المكان لأي سبب كان. مما فاقم من معاناتهم وزاد من حالة القلق والتوتر لدي أفراد الأسرة، وهذا يحدث خللا في طبيعة العلاقة ما بين الطفل وأسرته، ويخلق العديد من المشاكل النفسية والاجتماعية لديهم.
ويُعتبر "الحبس المنزلي" إجراءً تعسفياً ولا أخلاقياً ومخالفةً لقواعد وأحكام القانون الدولي. كما ويشكل عقوبة جماعية للأسرة بمجموع أفرادها التي تضطر لأن تَبقى في حالة استنفار دائم، حريصة على حماية ابنهم من خطر تبعات تجاوزه للشروط المفروضة وعدم مغادرة المكان.
وتلجأ سلطات الاحتلال إلى هذا الشكل من "الحبس المنزلي" بهدف ترويع الأطفال وتخويفهم وفقدانهم الثقة بأفراد أسرهم، والتأثير على توجهات أفراد العائلة ومعتقداتهم وأفكارهم ودفعهم نحو الالتزام بما يصدر عن سلطات الاحتلال الإسرائيلي من قرارات، وإلزام أبنائهم بتنفيذها. وصولا إلى الهدف غير المعلن والمتمثل بقبولهم بالأمر الواقع ومنعهم طواعية من المشاركة بأي شكل من أشكال الاحتجاجات السلمية والمقاومة المشروعة للاحتلال.
هذا بالإضافة الى فرض الغرامات المالية من قبل المحاكم العسكرية الإسرائيلية وخاصة بحق الأطفال، حيث نكاد نقول: أن جميع الأحكام الصادرة بحق المعتقلين الأطفال الفلسطينيين، تكون مقرونة بغرامة مالية. ودائما ما تكون باهظة و مرتفعة تشكل عبئا اقتصاديا على الاهل الذين يضطرون لدفعها خاصة ان تعلق الامر بالأطفال. وهي شكل من اشكال السرقة والقرصنة وتستخدم أحيانا للضغط والابتزاز. كما وان الاموال التي يجبيها الاحتلال من الغرامات تخفف عليه أعباء السجون والاعتقالات.
وعلاوة على كل ذلك تلجأ سلطات الاحتلال الى اعتقال أفراد الأسرة، وخاصة الآباء والأمهات والزوجات، للضغط على المعتقل وابتزازه، ومعاقبة الأهالي والتعمد بإلحاق الأذى الجسدي والنفسي والمادي بهم من خلال إغلاق المنازل ومنع السفر والملاحقة المستمرة ووضع العراقيل والمضايقات أمام الحرية والتنقل عبر المعابر والحواجز وانجاز المعاملات الخاصة، وإغلاق الحسابات البنكية والسطو على المخصصات المالية و إلغاء التأمين الصحي والمخصصات الاجتماعية كما حصل مؤخرا مع العديد من أهالي القدس وغيرها.
لذا فإن كان من الواجب الوطني والانساني والأخلاقي مساندة الأسرى والمعتقلين ورعايتهم والوقوف بجانبهم، فمن الضروري كذلك مساندة الدوائر الاجتماعية المحيطة بالمُعتقلين ورعايتهم والاهتمام بهم وضمان مستوى لائق من الحياة الكريمة لهم. وخاصة الأطفال، إذ أن "صدمة" الاعتقال، تترك تأثيرات فظيعة على الصحة النفسية للأطفال وتكوين شخصياتهم وسماتهم النفسية وخصائصهم بدرجة أعلى من البالغين، سواء أكانوا أولئك الذين مرّوا بتجربة الاعتقال والسجن بشكل مباشر، أم أولئك الأطفال الذين عُذبوا وعانوا من تداعيات اعتقال أحد الوالدين أو كليهما. فيما الحالة الفلسطينية تشير الى أن غالبية الأطفال الذين عانوا آثار الاعتقال والسجن، بقيت صور معاناتهم في أذهانهم، ونما لديهم شعور متزايد من الكراهية للاحتلال، مما يدفعهم دوما نحو العنف والانتقام.
وتفيد دراسات عديدة بأن الاعتقال قد أثر على الأسرة الفلسطينية التي تعتبر المؤسسة الأولى المسؤولة عن التنشئة الاجتماعية، وتسبب في كثير من الضغوطات والصعوبات والمشكلات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والصحية، مع اختلاف درجاتها من فرد لآخر ومن أسرة لأخرى. وتضررت الكثير من العائلات الفلسطينية بسبب اعتقال الأب أو الزوج أو الأخ أو الابن، وأدى ذلك إلى اختلال كبير في نظام العائلة وتكوينها، وطبيعة ونمط العلاقات الأسرية، إضافة إلى حالة القلق التي تعيشها الأسرة خلال فترة اعتقال أحد أفرادها، حيث لا يمكن أن تؤدي الأسرة جميع وظائفها في حالة غياب الأب ووجوده داخل المعتقل. ففي كثير من الأحيان تبرز العديد من المشكلات داخل الأسرة. وتُشير التقديرات إلى أن أكثر من 40% من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال هم من المتزوجين، وهذا يؤثر بدوره على الوضع النفسي لأفراد الأسرة ومستقبل الأبناء وطبيعة الحياة الاجتماعية لهم، ويضع مسؤوليات جديدة على زوجة الأسير ويلقي عليها أعباءً إضافية ثقيلة، حيث تقوم بدور مزدوج وهو دور الأب والأم معاً.
وبالرغم مما ذكرناه، وكثير مما يمكن إضافته، فان استمرار الاعتقالات الإسرائيلية، وارتفاع أعدادها، وما يُمارس بحق المعتقلين الفلسطينيين وعائلاتهم من انتهاكات جسيمة وجرائم فظيعة، وما تلحقه من أضرار وخيمة وآثار جسيمة بالفرد والأسرة والمجتمع، فإنها لم تفلح في كسر إرادة الأسرى الذين حافظوا على انتماءهم الوطني، وقدموا نماذج تُحتذى في مقاومة الاحتلال خلف القضبان، وجعلوا من السجون مؤسسة وطنية تصون الهوية الوطنية وتعزز الانتماء للوطن. فسجلوا تجارب فريدة ومميزة، حُفرت عميقاً في الوعي الجمعي الفلسطيني. كما ولم تدفع تلك الاعتقالات الشعب الفلسطيني إلى الاستسلام أو التخلي عن حقوقه ووقف مسيرته الكفاحية المستمرة نحو تحقيق أهدافه الوطنية المشروعة.