أخذني موقف الأب «عم حسن» في الحارة الشعبية في مسلسل «القاهرة كابول» الذي يعرض حالياً، والذي يضطرك لكي تأخذ منه القصص القصيرة المحشوة بلا إسفاف داخل القصة الرئيسية. فالأب يأتيه من يشي بابنته، وبأنه قد رآها تخرج من بيت بعيد عن بيتها مع جارها السابق، بعد أن تغيب معه داخل البيت لساعات، وقد جاءت تلك الوشاية من شاب يدعي حبها، فما كان من الأب الذي يثق بأخلاق ابنته وتربيتها، أن قال له بكل هدوء: لو أنك تحبها لما جئت لتشي بها، وأنت قد رأيت جزءا من الحقيقة أو المشهد الأخير لقصة أو موضوع أو حكاية.
للأسف فالكثير من الناس يرون جزءاً من الحقيقة، والكثير من الناس يقعون ضحية هذا الجزء غير المكتمل.
جزء من الحقيقة الذي طالما دفعت - ولا تزال تدفع - ثمنه الكثيرات، مثل أن يأتي أحدهم فيقول أنه رأى ابنة فلان تدلف إلى عمارة مشبوهة، والحقيقة ان في العمارة عيادة طبيب أسنان أعلن عن تخفيضات هائلة على تكلفة علاج الأسنان على سبيل المثال وأرادت هذه الفتاة ان تستغل العرض لضيق الحال، ولكن الواشي والذي اتهمها لم ير في العمارة سوى انها سيئة السمعة.
وهناك قصص كثيرة وحكايات موجعة مرت بي وسمعتها من بطلاتها مفادها أننا نسمع دوما نصف الحقيقة ولا نكلف أنفسنا البحث عن باقي الرواية، ويحدث ذلك حين نحكم على امرأة مثلاً لمجرد ثرثرة من أخرى تشعر بالغيرة منها، أو أنها تريد تشويه سمعتها، فنضع تلك المرأة المظلومة في قائمة سيئات السمعة دون أن نبحث أو نتحرى.
في المحكمة لا يوجد قاض يسمع من طرف واحد، ولا يوجد قاض يحكم دون أن يسمع دفاع المتهم او محاميه، ودائما ما يطلب شهادة الشهود، فالقاضي دائماً يتوقع أن الشاكي الذي جاء بعين مفقوءة، ربما يكون قد فقأ العينين الاثنتين للشخص الذي يتهمه بالتعدي عليه.
لو أننا نفعل مثل الأب حسن والذي يعرف لدرجة اليقين انه قد ربى ابنته الوحيدة والتي تقدم بها العمر حتى قاربت على الاربعين دون زواج أنه قد رباها تربية طيبة، وانها قد كبرت عن مرحلة المراقبة والمتابعة، وأنها تمتلك ضميراً يراقبها أقوى من أي رقابة أبوية، ولذلك فعلاقته بها هادئة وجميلة وليت كل الآباء يقيمون مثل هذه العلاقة مع بناتهم مهما تقدم بهن العمر.
وليت كل الآباء لا يسمعون لكلام الغرباء، وللوشايا والسموم المدسوسة التي تضخ من عالم السوشال ميديا، والذي استطاع هذا العالم ان يذلل كل الوسائل لكي يراقب الناس بعضهم البعض بكل سهولة مثل تسجيل المحادثات على الفيس بوك أو الواتس آب مثلاً، ولا تنسوا تقنية «السكرين شوت» وهي دليل دامغ رغم أنه دائماً يحمل جزءاً من الحقيقة، لأن من يقوم بتصوير والتقاط لقطة من الشاشة سواء لمحادثة او صورة أو لقطة من فيديو، فهو لا يظهر سوى الجانب الذي يريده، والجانب الذي يوضح وجهة نظره وما يبغى توصيله عن ذلك الشخص للآخرين.
كلنا وقعنا بطريقة أو أخرى ضحايا لجزء من الحقيقة على مدار حياتنا، والطرق التي أصبحت تستخدم عبر مواقع التواصل الاجتماعي حولتني إلى انسانة حذرة ومتخوفة، انسانة لا تثق بأن الشخص الذي تحاوره أو يتتبع ما تكتب وتعبر به عن رأيها قد أخذ جزءاً من الحقيقة، الويل لنا من حقيقة ناقصة ندفع ثمنها، وهذه الحقيقة الناقصة للأسف لا يلجأ لها سوى ضعاف الشخصية ومهزوزي الثقة بأنفسهم والذين لا يملكون قوة أو فضيلة المواجهة.


