منذ أن وطأت قدما جو بايدن عتبات البيض الأبيض رئيساً، بدا مؤكداً أن رياحاً جديدة ستهب على عواصم الشرق الأوسط، وأن تبدلات ستطرأ على مواقع ومواقف هذه العواصم، من جملة الأزمات والصراعات المفتوحة، فالرجل ليس طارئاً على السياسة الأمريكية الخارجية، ومواقفه من معظم ملفاتها، كانت واضحة قبل أن يتصاعد الدخان الأبيض من صناديق الاقتراع.
ثلاث زعامات إقليمية، تضخم دورها وانتفخ في سنوات إدارة دونالد ترامب الأربع: نتنياهو، ابن سلمان وابن زايد، كان جلياً أن نفوذها الفائض عن حدودها، سيتعرض لاهتزازات شديدة...نتنياهو يصارع اليوم لاستنقاذ مصيره الشخصي والسياسي...ابن سلمان، يلملم ذيول مغامراته غير المحسوبة...ومحمد بن زايد، سبق الجميع للتكيف مع معطيات مرحلة "ما بعد ترامب".
عناوين ثلاثة، بشّر بها بايدن مرشحاً، وباتت سياسة رسمية للبيت الأبيض مذ أن جاء رئيساً: "حل الدولتين" لصراع الفلسطينيين والإسرائيليين، العودة للاتفاق النووي مع إيران، والديمقراطية وحقوق الانسان، بوصفهما معيار حاسماً ( وليس وحيداً) في تقرير شكل ومستوى علاقات الدولة الأعظم بحلفائها وخصومها...عناوين ثلاثة، كانت بمثابة سهام ثلاثة، أصاب اثنان منها على الأقل، كل واحدٍ من الزعماء المذكورين ، بعد أن فقد، أو هو بصدد أن يفقد، درعه الواقي جرّاء تآكل زخم مسار التطبيع العربي – الإسرائيلي، وتراجع جدواه الاستراتيجية، وفقدان "تحالف إبراهام" وظيفته كإطار لمحور إقليمي في مواجهة إيران.
كان واضحاً أن الشرق الأوسط، على اتساعه وأهميته، أخذ يحتل مكانة متراجعة، في سلم أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، وجاء قرار الانسحاب العسكري من أفغانستان، وإعادة تموضع القوات الأمريكية في العراق، تزامناً مع إعادة تعريف تفويضها، نذيراّ بأن واشنطن بصدد ترك "فراغ قيادي" في الإقليم، وأن على دوله وحكوماته، التفكير بكيفية ملئه، والبحث عمّن سيملأه؟
إسرائيل حاولت أن تقدم نفسها، بوصفها "اللاعب الرئيس" الذي بمقدوره ملء هذا الفراغ، ونتنياهو "تبجح" بأن الدولة العبرية صارت قوة عالمية، كفيلة بلجم إيران وتعطيل برنامجها النووي، ومطاردة نفوذها الإقليمي، سيما بعد أن نجح في استهداف مفاعل "ناتنز" وضرب السفينة الإيرانية "سافيز" قبال سواحل إريتريا...لكن، ومع أنه أدرج هذه العمليات في سياق الدفاع عن "تحالف إبراهام"، وليس عن إسرائيل وحدها، إلا أن أحداُ في المنطقة، لم يشتر هذه "البضاعة" على ما يبدو، وظل القلق سيد الموقف في كثيرٍ منها، سيما في الرياض.
الاستدارة السعودية
مبكراً كثفت الرياض مساعيها للتكيف مع الوضع الجديد الناشئ، فتحت قنوات الحوار مع تركيا التي لم تعد كما كانت: تهديداً لا يقل فداحة عن التهديد الإيراني، وأكسبت المصالحة مع قطر، معاني جديدة، إذ لم تعد مجرد استجابة لضغوط إدارة ترامب، بل هدف قائم بذاته، يستدعي الاهتمام والرعاية الخاصة ...وانقطع سيل التكهنات بالخطوة التالية التي ستخطوها المملكة على طريق التطبيع مع إسرائيل.
على أن التطور الأهم في السياسة الخارجية السعودية، إنما يتمثل في انقلاب النظرة إلى إيران وكيفية التعامل معها...من التلويح بـ "نقل الحرب إلى الداخل الإيراني" زمن ترامب وإدارته، إلى خطاب "إيران دولة جارة، نطمح في أحسن العلاقات معها، لا نتمنى لها سوءاً، ونريد لها النماء والازدهار، ولدينا مصالح فيها، ولديهم مصالح عندنا"، إلى غير ما هنالك من مفردات غابت عن القاموس السعودي لسنوات، وربما لم تكن جزءاً منه يوماً.
في حديثه الصحفي الأخير، لم يغب عن الأمير التأكيد على وجود خلافات مع طهران، نابعة في الأساس من مواقف الأخيرة "السلبية" التي يتعين عليها تغييرها، ولم يفته أن يلخص هذه القضايا بالبرنامجين النووي والصاروخي ودور إيران الإيراني المزعزع للاستقرار، لكن الرجل حرص أشد الحرص، على القول بأن معالجة هذه الخلافات، إنما يندرج في سياق التعاون مع الحلفاء، وأكثر الحلفاء نشاطاً في هذا المضمار، كما هو معروف، هي الولايات المتحدة.
ولأن الحديث عن إيران، يستدعي حكماً الحديث عن اليمن، ورقة إيران القوية وخاصرة السعودية الضعيفة، فكان لا بد للاستدارة السعودية، لكي تكتمل، أن تشمل الملف اليمني كذلك...هنا ينتقل ولي عهد المملكة ورجلها القوي، من لغة "عاصفة الحزم" والاستعداد لتدمير الحوثي وصالح (الراحل) في غضون أيام، إلى سياسة مد اليد إلى جماعة أنصار الله، وهو وإن أظهر قلقه من علاقاتها مع النظام الإيراني، إلا أنه لم يخف رهانه على "يمنيّة" و"عروبة" الحوثي...هذا تطور في الخطاب السعودي، ما كان لأحدٍ أن يتخيله قبل ستة أشهر.
والحقيقة أن أسباب هذه الاستدارة في المواقف والسياسات السعودية، لم تعد خافية على أحد، فالمملكة أُنهكت بحروبها على الغير، وحروب الآخرين عليها، مباشرة أو بالوكالة...والمملكة لم تسجل نجاحاً ذي مغزى، منذ أن انخرطت في مغامراتها اليمنية والقطرية، وقبلها لم تسجل فوزاً واحداً، لا في العراق ولا في سوريا، وطوال عقد الربيع العربي، يمكن القول إن "المنجز الوحيد" الذي حققته المملكة، هو منع انتصار الثورة الشعبية في البحرين، قبل سنوات من مجيء الملك سلمان ونجله للحكم.
لكن هذا التحول، وبرغم حاجة المملكة الراهنة إليه، ما كان ليحدث بالضرورة، لو أن نتائج الانتخابات الأمريكية الرئاسية، جاءت في صالح ترامب واليمين المحافظ في الولايات المتحدة...كان يمكن للمملكة أن تواصل محاولاتها مع حلفائها، وبقيادة أمريكية، تكسير عظام خصومها في المنطقة، بعزلهم وتطويقهم وإسقاطهم جوعاً...كان يمكن للمملكة أن تراهن على "أقصى العقوبات" وعلى دعم ترامب وإدارته لها في الحرب على اليمن، وشبكة الأمان التي وفرها لولي عهدها، بعد أبشع جريمة اغتيال لمواطنها الصحفي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول، كان يمكن لها أن تركن إلى تفهم تيار متشدد داخل الإدارة، لحصارها على قطر، وكان يمكن لـ"تحالف إبراهم الاستراتيجي"، أن يكون المحور الأكثر ثقلاً من بين المحاور المتنافسة والمتصارعة في طول الإقليم وعرضه.
لكن كل ذلك، لم يحصل، بل وحظيت الرياض بإدارة أمريكية، لا تكف عن ترديد نغمة الديمقراطية وحقوق الانسان، وتستعجل معالجة الكارثة الإنسانية في اليمن، وتنفتح على طهران، وتستبدل "أقصى الديبلوماسية" بـ"أقصى العقوبات"، لم تعد ثمة خيارات كثيرة وواسعة أمام المملكة، سوى التكيف مع الريح الجديدة التي هبت من واشنطن.
لا تريد المملكة أن تجعل من الولايات المتحدة، عدواً لها، فهي تعرف الكلف الباهظة لأمر كهذا، حتى أننا رأينا ولي عهدها يتحدث عن مساحة اتفاق مع واشنطن تزيد عن تسعين بالمئة، تاركاً العشرة بالمئة الباقية، كهامش ضيق للخلاف...لكنه وهو الذي يعرف أكثر من غيره، أن هوامش الخلاف أكبر بكثير من محاولة "تقزيمها"، حرص في الوقت ذاته، على التلويح بورقة تنويع خيارات بلاده وتحالفاتها مع مراكز دولية ناهضة: الصين، روسيا الهند ودول الاتحاد الأوروبي، فأمريكا لم تعد نصف العالم وقائدته، كما كانت بعد الحرب العالمية الثانية، أمريكا اليوم "خُمس" العالم، لا أكثر.
إن النظر في التحولات التي طرأت على السياسة السعودية، يطرح جملة من الأسئلة والتساؤلات، منها على سبيل المثال، لا الحصر: هل نضج ابن سلمان على وقع التكاليف الهائلة والخيبات المريرة لمغامرات السنوات الست الفائتة؟ ...هل هي عودة لتقاليد المملكة في السياسة الخارجية، أم أنها "انحناءة تكتيكية"، قابلة للانتكاس من جديد، بانتظار "عودة ميمونة" لترامب أو من هو على صورته وشاكلته للبيت الأبيض بعد أربع سنوات؟ ...ثم، وبفرض أنها انحناءة مؤقتة، هل سيكون بمقدوره أن يمحو أثار ما ستقوم به إدارة بايدن في السنوات الأربع القادمة، وما يمكن أن تفرضه على الأرض من وقائع ومعطيات؟


