تفيد دراسات عدة صدرت حديثاً أن سنة 2021 ستكون سنة تغير رقمي عميق وسريع بعد الصدمة التي عاشها العالم وما زال نتيجة تفشي وباء كورونا. فقد أدت الإغلاقات وغيرها من القيود إلى تلاشي الكثير من العادات القديمة، وأوجدت أخرى جديدة، وستكون السنة الحالية 2021 هي السنة التي سنتعرف فيها على مدى عمق وتأثير هذه العادات الجديدة على الصحافة أشكالاً واستهلاكاً وأولويات. وبينما يتوقع الكثيرون منا عودة إلى (الحياة الطبيعية)، يبدو أن الواقع سيكون مختلفاً عما عرفناه قبل الجائحة، حيث سيتعايش الواقعي مع الافتراضي بطرق وأشكال جديدة. الاقتصاد وأبرز ما تأثر من وجوه الحياة بأزمة كورونا هو الاقتصاد، ويرجح باحثون أن يكون العام الحالي هو عام إعادة تشكل الاقتصاد المحلي والعالمي، وهذا بدوره سينعكس على الصحافة بحيث بدأنا نشهد ميلاً من المؤسسات الإعلامية إلى تقديم خدماتها مقابل اشتراكات مدفوعة، واعتمادها في الوقت ذاته على التجارة الإلكترونية أي الإعلانات التجارية والتوسع فيها بطريقة غير مسبوقة، حتى أصبحت المواقع الرقمية لوسائل الإعلام تنافس في ذلك مواقع الشركات التجارية المتخصصة في البيع بالمفرق. والسبب الذي شجع وسائل الإعلام على اتخاذ هذا المنحى هو الإقبال الكبير من قبل الجمهور على وسائل الإعلام لتتبع أخبار الجائحة وما أحدثته من تغيير في عادات السفر والتعليم والتجارة والعمل. على صعيد آخر، أرغمت الجائحة منصات التكنولوجيا العملاقة (فيسبوك، تويتر، يوتيوب، وغيرها) على إعادة التفكير في مسألة (حرية التعبير) وأين ينبغي أن ترسم حدودها، بعد أن فاضت هذه المنصات بالأخبار الزائفة أو التحليلات المضللة التي تعتمد على أنصاف أو أرباع الحقائق. ومن المتوقع أن نشهد تدخلاً أكبر من القائمين على هذه المنصات للحد من المحتوى الذي يفتقر إلى المصداقية خصوصاً فيما يتعلق بحياة البشر. وما قام به تويتر من حجب لتغريدات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب التي تشكك في الانتخابات ثم حظره نهائياً بعد تحريضه مؤيدين له على اجتياح مبنى الكونغرس أحدث الأمثلة على ذلك.
الشهور والسنوات القادمة ستشهد توسعاً كبيراً في استخدام التقنيات الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي من قبل الصناعات المختلفة ومن بينها الصحافة والنشر. وكلما دخل الذكاء الاصطناعي حلبة التطبيق في واقع حياتنا سيشتعل النقاش حول تأثيره على تغيير طريقة عمل الصحافة وعلى مفاهيم الشفافية والإنصاف. ومن المتوقع أن تتوسع المؤسسات الإعلامية في اعتمادها على الذكاء الاصطناعي لتحسين الكفاءة الإنتاجية. ويرى نك نيومان مؤلف كتاب (توجهات وتوقعات الصحافة والإعلام والتكنولوجيا 2021) أنه سيكون للذكاء الاصطناعي أكبر الأثر على الصحافة على مدى السنوات الخمس القادمة، لكن المؤسسات الإعلامية الكبرى ستكون هي المستفيد الأكبر من الذكاء الاصطناعي بنسب متفاوتة، تاركة غيرها من المؤسسات الإعلامية تتلمس طريقها للحاق بركب المستفيدين من هذه التقنية.
من ناحية أخرى سوف تستفيد المؤسسات الإعلامية الكبرى من المبالغ المالية الكبيرة التي ترصدها الشركات الإلكترونية المختلفة مثل جوجل وأمازون وأبل مقابل محتوى إخباري مميز وموزع حسب البلد (Localised) حيث بات واضحاً أهمية الأخبار المحلية سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو غيرها. كما أن هناك سوقاً هائلة للأخبار العاجلة والمستقلة ذات الجودة والمصداقية. ويتوقع أن يشهد هذا المجال منافسة كبيرة بين هذه الشركات العملاقة مما سيعود حتماً بفوائد مالية كبيرة على الجهات الإعلامية المزودة بهذه الخدمة الإخبارية.
وفي مرحلة يشهد فيها العالم زيادة هائلة في حدة الاستقطاب الاجتماعي والسياسي من المتوقع أن تتعرض مفاهيم صحفية تقليدية مثل الموضوعية والحياد للمراجعة العميقة، مع توقعات بانطلاق مؤسسات إعلامية جديدة هذا العام تروج لمفاهيم حزبية وايديولوجية محددة. وفي الوقت الذي تزداد فيه الحاجة إلى مفاهيم الحيادية والموضوعية في مثل هذه الظروف إلا أن هناك قضايا سياسية واجتماعية (كالعنصرية وتهديد حياة الصحفيين بسبب عملهم وتعمد الإضرار بالبيئة وخطاب الكراهية) من غير المنطقي أن يكون الصحفي فيها محايداً.
وقد احتدم النقاش في العام الماضي حول رواج الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة في المواقع الإلكترونية وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا)، مما دفع السياسيين إلى انتهاز الفرصة لتشديد القيود على حرية التعبير، ولم يسلم من ذلك بعض الديمقراطيات العريقة كما شهدنا في الجدل حول القانون الفرنسي الجديد الخاص بالأمن القومي. من شأن هذا الوضع أن يعقد أكثر مهمة الصحفيين الاستقصائيين على وجه التحديد وغيرهم من الصحفيين الذين يسلطون الضوء على ممارسات أصحاب الثروة والنفوذ. في الوقت ذاته هناك خشية من زيادة نشر المعلومات المغلوطة التي تحملها مقاطع الفيديو التي توزع عبر المنصات الإلكترونية المختلفة مثل سبوتيفاي ويوتيوب خصوصاً مع ظهور القنوات والمؤسسات الإعلامية التي تروج لآراء ومواقف أحادية أو حزبية.
ومن الملاحظ أن المحتوى الإعلامي الصوتي قد تربع خلال العام المنصرم على عرش مصادر الأخبار كما تفيد بذلك بعض الدراسات، الأمر الذي يدفعنا لتوقع زيادة في الإقبال على البودكاست والاشتراك في المؤسسات الإعلامية التي تقدم إنتاجها من أخبار ومقالات بالصوت إضافة إلى الكتابة.
ختاماً يتوقع خلال هذا العام أن يشجع انتشار تقنيات البث والتواصل الحديثة الصحفيين على مغادرة مكاتبهم وممارسة عملهم بشكل وجاهي خصوصاً أن عاماً كاملاً من الإغلاق والقيود على الحركة قد خلق توقاً شديداً للتواصل الوجاهي بين الصحفيين وبينهم وبين مصادرهم، مدفوعين بحالة الإعياء التي تسللت إلى نفوسهم من استخدام زوم زغيره من تطبيقات التواصل عبر الإنترنت.