لماذا فيروز ؟ ،،، محمد سالم

الإثنين 07 سبتمبر 2020 10:45 م / بتوقيت القدس +2GMT
لماذا فيروز ؟ ،،، محمد سالم



لآنه اعتراف الساسة بالقيم الفنية والرموز الثقافية التي يكون لها تأثير في شعوبها ومن خلالها يستطيع أن ينال ما يصبو إليه ؛ للقاء الرئيس الفرنسي، والسيدة فيروز ، له دلالة على قيمة الفن وأهمية القوة الناعمة التي يتخذها ماكرون مدخلا له لزيارته الثانية لبيروت خلال أقل من شهر. إلا أن رمزية هذا  اللقاء طغت على تعقيدات المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي اللبناني، الذي يشهد تطوراتٍ صعبة منذ اعوام ، والرئيس الفرنسي يعرف جيدا أن السيدة فيروز رمز وطني يلتقي على اسمه اللبنانيون ولا يتفرقون عليه مطلقا.

  وقد صف الشاعر محمود درويش، صوت فيروز، قائلا: "إنه عبارة عن ظاهرة طبيعية ولن يجد العالم صوتاً كصوت هذه اللبنانية، فعندما نسمع أغانيها نسترجع طفولتنا وأحلامنا البريئة، وعندما تغني للحب بصوتها الملائكي؛ تتدفق منها الأحاسيس الرائعة ويدخل السامع في عالم من الأحلام". وكانت أغاني فيروز بسيطة التعبير مع عمق الفكرة الموسيقية وتنوع المواضيع، فقد غنت للحب والأطفال، وللقدس , لتمسكها بالقضية الفلسطينية، وللحزن والفرح والوطن والأم.

لكن .. بعد هذا اللقاء ، دار بذهني خاطر ملح حول الطريقة التي نعرض بها قضيتنا الكبرى في الخارج لماذا نرسل احيانا ممثلين عنا ، لا يعرفون كيف يتخاطبون مع الراي العام في الكثير من بلدان العالم , ولماذا يتحدثون باسم قضيتنا من لا يجيدون أي لغة ثقافية ، واهم من ذلك لا يجيدون تقديم قضيتنا بلغة العصر ، كثيرا ما اتساءل وتتملكني الحيرة، بشأن الأسباب التي تدعو المسؤولين إلى إبعاد الكفاءات والموهبين و الشخصيات الادبية الوطنية المشهود لها ، بشكل واضح و متعمد ، مع القيام في الوقت ذاته بتصعيد أنصاف الموهبين، وما دون ذلك، وإسناد المهام السياسية او الثقافية الكبرى التي يجب أن تضطلع بها شخصيات مثقفة واسعة الأفق، لأناس محدودي الثقافة ضيقي التفكير ؟!!

الشيء الأكثر إثارة للاستغراب أن من يفعلون ذلك، يشاركوننا البكاء على انحسار الدعم لقضيتنا وفي أوقات كثيرة، يضطر أصحاب المواهب الحقيقية، في العديد من المواقع، لخفض رؤوسهم، حتى لا تلفت أنظار الحاقدين من متوسطي الموهبة، وتتعرض بالتالي للقطاف.

فهل تتجه السياسة الفلسطينية الى تصويب ضرباتها على جبهة الثقافة العريضة ؟ بما تشمله من افكار وفنون وادأب وعلوم وكل ما يتعلق بالكلمة المقروءة والمسموعة والمرئية ، في محاولة متواصلة لتغير "النظرة القديمة" لبعض الشعوب وتشجيعها على نبذ  التطبيع وإدانة المشروع الصهيوني الاستعماري الدموي التوسعي؟ ، وتقديم النموذج العربي الفلسطيني ثقافيا بأبعاده وأهدافه الواضحة في الاستقلال والحرية، وتكوين واجهة ثقافية تعمل من خلالها لتحصين الشعوب ضد  التطبيع ، والوباء الصهيوني وتمهد الطريق امام مصالح السياسة الفلسطينية في الخارج.

فعندما افتتح السوفييت بيتا للثقافة في برلين لبناء ثقافة شيوعية هناك ، اسرع الامريكيون بافتتاح المراكز الثقافية في مختلف بلاد العالم لتقديم الثقافة الامريكية من خلال عروض السينما وحفلات الموسيقي والمعارض الفنية والمحاضرات العامة، و أرسال الوفود الفنية والكتاب والادباء من اجل حماية الصورة الامريكية  التي ترسمها وسائل الدعاية والاعلام في خيال الاخرين ، وفى ذلك معاني الحرية والتحرر الى غير ذلك من الوسائل والواجهات للتخلص من كل اثر للشيوعية.

ان ما فعلته السياسة الامريكية في عالم الفن والفكر والادب لإعادة بناء البنية الثقافية في العالم بما يؤدى الى كراهية الشيوعية ، والسعي وراء النموذج الامريكي يؤكد سرعة الثقافة في التأثير على الوعي والوجدان من خلال الرواية الادبية والدراما في السينما والتليفزيون والمعارض الفنية والحفلات الموسيقية  بحيث يتم تدريجيا التخلي عن نمط قديم واكتساب نمط اخر ، خاصة اذا كان هذا الاخر يركز على الحريات والاستقلال ؛ وهكذا عندما سقط حكم الاحزاب الشيوعية في اوروبا الشرقية لم يجد هذا السقوط مقاومة من الجماهير التي كانت تتشرب على مدى اكثر من اربعين عاما وبالتدريج ثقافة معادية للشيوعية، وفى النهاية تغير نمط السلوك والفكر اقوى تأثيرا من تغير نمط الانتاج الذي تعول عليه الماركسية.

هذا ليس موقفا انفصاليا عن النضالات السياسية، فالمشاركة السياسية والثقافية، تعتبر بمختلف صورها من أهم مؤشرات مدى ديموقراطية النظم السياسية، والمقياس الأهم لمدى شرعيتها، ونضالها ومؤشرًا يعكس الثقافة السياسية السائدة بما تحتويه من قيم إيجابية مُدعِمة وأخرى سلبية ومُثبطة، بالإضافة إلى كونها عنصرًا أساسيًا في دعم  قضية شعبنا الشريفة و العادلة امام العالم ؛ كذلك تعلب القيادات الفكرية  والثقافية، دورا هاما فى توجيه الأفراد والشعوب المختلفة ، وفى صنع التاريخ ، وربما كان دورها أهم من دور القيادات السياسية.
إن قضية تفعيل دور القوة الناعمة  وتعزيز المشاركة   الثقافية في المجتمع والخارج ، ليست قضية سياسية و أكاديمية فحسب، بل مسئولية وطنية بحاجة لاهتمام كبير ، انطلاقا من أنها  الثروة الأساسية التي نمتلكها، وهم المرشحون للمساهمة بفعالية في التصدي للتحديات التي ما زالت تواجه شعبنا .