سليمان استعان بمسدس شقيقه كي ينهي حياته، بعدما اعتلى سطح منزل وأطلق رصاصة الرحمة داخل فمه، محاولاً بذلك قول ما لم يستطع قوله في حياته.
مع إعلان انتحار الشاب العشريني سليمان العجوري، بلغت حالات الانتحار في قطاع غزة حتى نهاية الأسبوع ذاته، 4، بينهم امراة في الثلاثين، من رفح قتلت نفسها شنقاً. ووفقاً للمعلومات، أنهت حياتها بسبب خلافات مع زوجها ومعاملته القاسية معها. ومن الحالات الـ4، شاب من مخيم الشاطئ توفي متأثراً بجروحه، بعدما أشعل النار في نفسه، احتجاجاً على وضعه الاقتصادي الصعب. وكذلك أقدم مدرّس في “وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين” (أونروا) من مخيم جباليا شمال قطاع غزة، على الانتحار شنقاً لظروف لم يعلمها سوى ذويه.
شكل انتحار سليمان العجوري فاجعة وصدمة كبيرة في القطاع وأثار غضب الناس وحزنهم، إذ فوجئ أصدقاؤه بالخبر فهو من الوجوه المحبوبة في حراكات قطاع غزة، والتي كان آخرها حراك “بدنا نعيش” في آذار/ مارس 2019.
سليمان استعان بمسدس شقيقه كي ينهي حياته، بعدما اعتلى سطح منزل وأطلق رصاصة الرحمة داخل فمه، محاولاً بذلك قول ما لم يستطع قوله في حياته، ومعبراً عن صراخه وصراخ رفاقه ومطالباتهم المستمرة في الحق بمستوى معيشي لائق والحق في التعبير والتجمع السلمي ووقف الملاحقات الأمنية لمن يطالبون بحقوقهم الأساسية في مواجهة الجوع والفقر والبطالة والانقسام والحصار.
سليمان اختار الصمت الأبدي لوقف نزيف الوجع والقهر والظلم والتهميش والإهمال وإنكار حقه وحق جيل كامل من الشباب. وكتب قبل رحيله على “فايسبوك”: “هيّا مش محاولة عبث، هيا محاولة خلاص وخلص، الشكوى لغير الله مذلة وعند الله تلتقي الخصوم”.
يعيش سليمان في قطاع غزة حيث الوجع والظلم والقهر ومحاولات التغلب على العجز في مواجهة الانقسام والحصار وفقدان الأمل وضياع الأحلام. ففي غزة تتفاقم الأزمات وحالات الإحباط وتتراجع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وتتفاقم الجرائم والسلوكيات المؤسفة وفي مقدمها الانتحار، وارتفاع معدلات الطلاق وعدم القدرة على الزواج، والإدمان والسرقة. فـ73 في المئة من عائلات قطاع غزة تعاني ارتفاعاً في حوادث العنف القائم على النوع الاجتماعي، وما يقارب 73 في المئة من هذه العائلات تعاني أيضاً من انعدام الأمن الغذائي.
ووفقًا لمنظمات حقوقية في غزة، منذ بداية عام 2020 سجلت نحو 12 حالة انتحار، مقابل محاولات انتحار يومية يتمّ إنقاذها أو لا تؤدي إلى الوفاة، تتراوح بين 3 و5 حالات.
ووفقاً لمصادر في حكومة غزة، فإن عدد محاولات الانتحار حتى نهاية النصف الأول من عام 2018 وصلت إلى 373 حالة، منها 15 حالة وفاة. وشكلت محاولات الانتحار في صفوف الإناث حوالى 53 في المئة، بواقع 199 حالة، و46.6 في المئة للذكور (174 حالة). ومعظم محاولات الانتحار كانت من فئة الشباب، لا سيما من هم دون الـ30 سنة، بما نسبته 87 في المئة من محاولات الانتحار.
عام 2017، وصلت حالات الانتحار إلى 37 حالة أفضت إلى الموت، في حين سجّلن 759 محاولة انتحار، وكان عام 2017 الأسوأ في حالات الانتحار أو محاولات الانتحار خلال السنوات الماضية.
ويرى حقوقيون ومختصون نفسيون أن حالات الانتحار هي تعبير عن أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية لا تمكن مقاربتها أو النظر إليها مثل حالات الانتحار في دول أخرى لا تعيش الحصار والانغلاق، وتعيش في أمن واستقرار وتنعم بحرية التنقل والسفر والانفتاح على العالم الخارجي.
وفي نظر أولئك فهي لا تعد انعكاساً لحالات نفسية صعبة، إنما هي بمثابة رسائل احتجاج ورفض للواقع السيئ الذي يعيشه سكان القطاع.
وعلى رغم ارتفاع هذه الحالات، لا يعتبر مختصون أنها تشكّل ظاهرة، استناداً إلى المقاييس الدولية التي تعتمد على النسبة ما بين عدد الحالات وعدد السكان، وذلك بعيداً من تضخيم المشكلة مقارنة مع الظروف الصعبة التي يعيشها القطاع والتي تجعله بيئة خصبة لأزمات أكبر وأكثر تعقيداً.
وهنا تأتي دعوات إلى إنهاء الانقسام وتبني تدابير وطنية عاجلة وسياسات إجرائية، لتعزيز الحق في الحياة وحمايته، ومواجهة حالات الانتحار أو الشروع فيه.
خلال 14 عاماً من الانقسام، لم تبذل جهود حقيقية في وضع سياسات تتعلق بالضمان الاجتماعي والتأمينات الاجتماعية ومتابعة الحالات الاجتماعية الصعبة والفقراء الذين تتزايد أعدادهم، بل هناك إمعان في التنظير لتلك الحقوق وإهانة كرامة النفس البشرية وحقها في الحياة.
في حالات الانتحار، تهرب الحكومة من تحمل مسؤولياتها، علماً أنها مطالبة بالقيام بواجبها ومواجهة التزاماتها القانونية، وتوفير فرص عمل ومساواة بين الناس، والحد من البطالة والفقر، وتوفير الحد الأدنى من العيش الكريم وتحقيق الضمان الاجتماعي لمواطنيها.
لم يعد الناس معنيين بالاحتلال وعقوباته الجماعية ولم يعد الحصار المفروض هو الطامة الكبرى، إنما الحكومة هي التي تتحمل المسؤولية طالما ارتضت بأن تكون حاكمة بأمرها وتقود الناس وتسوسهم.
الحكومة هنا هي حكومة غزة التي تبحث في النتيجة، ولا تبحث في الأسباب، فتواصل تقصيرها وتهرب من الاستحقاقات المطلوبة، وتقف عاجزةً عن إقناع الناس برغبتها في الإيفاء بمسؤولياتها، أو بأن الوضع الكارثي ليست هي سببه، كيف ذلك وهي تجبي الضرائب وتمارس حكمها على كفاف الناس وعوزهم؟
حياة المنتحرين في رقاب السلطة والحكومة والفصائل والجميع عاجزون، والشعب لم يعد يحتمل وفقد الأمل في التغيير، وهو صامت في معظم الأحيان على ما يحصل من تدهور كارثي في حياتنا اليومية.
احترام حقوق الإنسان وتعزيز سيادة القانون، والمساواة بين الناس ومحاربة أشكال التفرقة والتمييز وحماية الحريات العامة وصون حرية الصحافة والتعبير، ومواجهة الاحتلال وضم الضفة وتحرير فلسطين، لم يعد لذلك كله معنى، فيما السلطات الحاكمة في غزة ورام الله ومعها الفصائل غير قادرة على توفير حياة كريمة وتعزيز صمود الناس، على الأقل عبر تأمين الكهرباء والمياه الصالحة للاستخدام الآدمي. ما دامت أبسط شروط الحياة غائبة… من يحمي الناس من الرغبة في إنهائها؟