أمام خط النار “يوميات طبيب من شمال إيطاليا”..د. مراد أبو بكر

الخميس 07 مايو 2020 04:59 م / بتوقيت القدس +2GMT
أمام خط النار “يوميات طبيب من شمال إيطاليا”..د. مراد أبو بكر



أنا شاب ابلغ من العمر 39 سنة، متجنس ومقيم في ايطاليا منذ قرابة 20عاما، أعمل كطبيب استشاري تخدير وإنعاش في مدينة بريشيا ,وهي ثاني أكبر مدينة في ولاية لمبارديا في شمال إيطاليا. كنت استمع واشاهد أخبار وتقارير إصابات فيروس كورونا في الصين منذ بداية العام الجديد وكنت اتابعها دون اكتراث او اهتمام , كانت تبدو بعيدة جدا” عن عالمنا وكأنها في كوكب آخر فالصين تختلف تماما” عن أوروبا وعن إيطاليا تحديدا”، جغرافيا” و سياسيا” واجتماعيا” فكان الأمر يبدو مستحيلا”، فمن غير الممكن أن يصيبنا ما أصابهم أو أن يحدث لنا مايشبهه, لم تخطر على بالي تلك الفكرة ابدا”.
بدأ الشتاء مع العام الجديد دافئا” ومع انتصاف شهر شباط فبراير بدأنا نسمع عن أولى الحالات الفردية والاصابات, بدأ الحديث يكثر عن هذا الفيروس ولكن ما زال بعيدا, كانت أولى تلك الحالات في قرية اسمها (فو) في ولاية لمبارديا وهي أهم واقوى ولايات إيطاليا والتي عاصمتها مدينه ميلان، العاصمة الاقتصادية لايطاليا والتي طالما تغنت بقوه النظام الصحي وكفاءته بالنسبة لباقي الولايات بل وعلى مستوى العالم اجمع. أغلقت تلك القرية ومنع الدخول او الخروج منها وأعلنت منطقه موبوئة. استمرت الحياة في بقية المناطق مع بعض التوجيهات والتنبيهات يخرج بها المسؤولون بين الحين والآخر بخصوص الوقائع وضرورة تجنب التجمعات دون اتخاذ أي اجراءات صارمة، واستمر المواطنون في حياتهم اليومية بالذهاب للمطاعم ودور السينما دون إدراكٍ لخطورة الامر. لم يدم الوضع طويلا “فقد بدأت الاصابات تزداد تدريجيا وتنتشر في عدة مناطق من الولاية حتى بدأت تقترب من مدينتي. بدأت أرى أولى الكمامات بين الناس في الشارع. وفي ليلة كنت عائدا” الى منزلي بعد سهرة مع الأصدقاء وتحديدا” في الثامن من اذار مارس سمعت الأخبار وقد أعلن عن انتشار الفيروس وكأنه إعلان حالة حرب. عدت الى منزلي و زوجتي على الفراش فهمست في اذنها بأن الأمر جاد جدا” وعلينا الاحتراس و عدم الخروج الا للضرورة، أغلقت المحلات والمطاعم ومنع الناس من الحركة الا للحاجة وبدأنا نشاهد طوابير الناس على السوبرماركت والصيدليات.
بعد يومين من ذلك التاريخ وفي ليلة الثلاثاء كان أول لقاء لي مع الفيروس وقد وصل إلى المستشفى الذي اعمل فيه رجل لا يشكو من اي مرض الا من حرارة وضيق تنفس منذ الأمس كانت حالته تبدو سيئة، تدهور وضعه بسرعة واضطررت لنقله الى العناية المركزة ومات بعدها بيوم وليلة، وبعد وقت قصير ظهر فحص الكورونا إيجابي.
بعد ذلك اليوم بدأت المستشفى تستقبل أعدادا” كبيرة من المرضى بشكل يومي و بصورة سريعة وبدأت أرى الأقسام تمتلئ رويدا” رويدا” بالمصابين وتتحول الى اقسام لفيروس الكوفيد، وأغلقت جميع الأقسام الجراحية وتحولت جميعها الي أقسام لهذا المرض الخبيث.
امتلأت العناية المركزة في أقل من أسبوع وأنشئ قسم جديد وأسرة جديدة وامتلأت بسرعة أيضا”. لم تعد هناك اسرة واجهزة تنفس متوفرة فقمنا بعد ذلك بوضع المرضى في غرف العمليات الجراحية والتي بدورها امتلات. وفي هذه الاثناء كان علي تغيير ملابسي باستمرار ولبس الملابس العازلة، ومع امتلاء المستشفى بالاسرة والمرضى ازدادت معه اعداد الموتى التي لم أعد احصيها وازدادت الحاجة إلى أجهزة التنفس، كان علي الاختيار من اضع له الاكسجين ومن اتركه في سريره. أصبحت أرى اعدادا من المصابين تترك لمصيرها في مواجهة هذا الفيروس اللعين الذي ينقض على فريسته الضعيفة ويقتلها. أصبحت اعيش وكأنني في حلم او كابوس أود أن استيقظ منه ,أعود إلى المنزل وأعين المرضى التي تطلب مني الاستنجاد والمساعدة لا تفارق مخيلتي.
في بداية الأمر كانت أعداد المرضى في الغالب من كبار السن وكانت أدوات الوقاية متوفرة فلم يكن هنالك ما يدعو للقلق. ولكن بعد مرور بعض الوقت بدأت أشاهد مرضى صغار ومن عمري وفي حالة حرجة وبدأت الكمامات وألبسة الوقاية تنقص ولم تعد متوفرة، ازدادت اعداد الإصابات بين زملائي الاطباء والممرضين واصبح هناك نقص حاد في عدد الكوادر الطبية، تضاعفت عدد المناوبات فكنت بعد مناوبتي 24 ساعة اذهب للبيت لست ساعات فقط ثم اعود للعمل، وبدا شعوري بأن الفيروس يقترب مني اكثر فأكثر، لم أعد افكر في الأمر فقد اعتدت عليه. اتابع الأخبار وأرى أعداد المرضى والوفيات في ازدياد مضطرد صوت سيارة الإسعاف لا يتوقف يرن في اذني.
في إحدى ليالي مناوبتي كان هناك شاب في ال 43 من عمره من أصول اجنبية وقد أدخل الى قسم الإنعاش قبل يومين، كانت حالتة حرجة، تدهور وضعه الصحي في تلك الليلة وبعد أن فرغنا من كل جهد لإنقاذ حياته فارق الحياة في السادسة صباحا”، وأثناء كتابتي للتقرير الطبي أخبرتني الممرضة بأنه علي أن اكلم زوجته التي هي وحيدة وأم لأربعة أطفال لأخبرها أن زوجها قد توفي وأنها لا يمكن أن تأتي لوداعه او رؤيته. عدت ذلك الصباح للمنزل منزعجا” من تلك الحادثة لا اعرف لماذا تأثرت، ربما لان لديه أطفال صغار أو لانه شاب في مقتبل العمر أو لانه مهاجر مثلي غريب في ارضه وسيدفن دون مشيعين ولربما لن يحصل على قبر لوحده.
اكتب هذه السطور الاخيرة وأعداد المصابين في مدينتي قد بدأت بالاستقرار ولم تعد تزداد وإن كان المشفى ما زال مليئا” بمرضى الكوفيد، وهذ مؤشر جيد فبعد قرابة الأربعين يوم من الإجراءات الصارمة بدأنا أخيرا نلمس بعض النتائج الايجابية وبدأت أرى النور في نهايه هذا النفق المظلم.
ما تزال الأبحاث الطبيه جارية لإيجاد لقاح وعلاج فعال لهذا الفيروس والى ذلك الحين تبقى إجراءات الوقاية هي السبيل الوحيد للحد من انتشاره ومنعه من حصد مزيد من الارواح. فلا أحد في هذا العالم بمأمن منه مهما كان جنسه أو بلده، فهذا المرض لم يعترف بالاعراق والاجناس والحدود و لم يفرق بين غني أو فقير.
مدينة بريشيا- ايطاليا