لا يُــعــقــل أبـــداً.. بقلم د. عبدالمجيد سويلم

الخميس 30 أبريل 2020 11:27 م / بتوقيت القدس +2GMT
لا يُــعــقــل أبـــداً.. بقلم د. عبدالمجيد سويلم



بعيداً عن عقلية التصيد ولغة التشتائم والسّباب، وبعيداً عن أصحاب "مهنة" الرقص في المآتم والعزاء، وبعيداً أيضاً وكليّاً عن كل من يرى الأبيض أسوداً في وَضَحِ النهار، فإن واقعة "القرارين" تشكّلُ انتكاسة لجهة سُمعة السلطة الوطنية، وهيبتها، ولجهة ما رصَدته لنفسها من أداء وطنيّ في مواجهة الأخطار والتحديات المحدقة بالحقوق الوطنية جرّاء الخطة الأمريكية الإسرائيلية لتصفية هذه الحقوق، والشجاعة التي قاد بها الرئيس هذه المعركة الوطنية ومن خلفه غالبية أباء شعبنا في الداخل والخارج وفي كلّ مكان، والتصدي الناجح للجائحة إن كان لجهة المحافظة على الإنسان الفلسطيني والحرص الوطني المسؤول عن صحته وسلامته أو لجهة مجموعة التدابير التي لجأت إليها حكومة السلطة الوطنية لمعالجة الآثار التي تترتب على هذه الجائحة وما سيترتب عليها من مشكلات ومتطلبات.

المثير للريبة والشك هو أن يتم "تمرير" هذين القرارين بشكل هو أقرب إلى حالة "الخِلْسَة" والإخفاء، أو تحت جُنح الجائحة وبمواربةٍ لا تحتاج إلى دليل، يبدو أن الذين دبّروا وطبخوا وزيّنوا كانوا على علمٍ ودراية باستحالة أن تتبنى الحكومة الفلسطينية هكذا قرارات، وذلك بالنظر إلى ما تمثله هذه الحكومة من حالةٍ وطنية مُميزة، وما للقرارين من أثر سيء، الذين دبّروا وطبخوا وزيّنوا يعرفون حق المعرفة أن هذه القرارات تتناقض بشكل صارخ مع التوجهات القائمة لتقليص النفقات، وحشد الموارد الإضافية لمواجهة متطلبات التصدي "للفايروس"، والأهم مواجهة حالة الفقر المتفاقمة، والازدياد المُفزع في معدلات البطالة في ظل شحٍّ غير مسبوق في الموارد، وفي ظل سياسة إسرائيلية مُعلنة من الحصار والتجويع، لهذا تمّتْ الأمور من وراء ظهر الحكومة باعتبارها (أي الحكومة) هي المعنية بصورة مباشرة بكل التفاصيل المالية أعباءً واحتياجات وعجوزات، وهي التي يُفترض أن تعيد النظر بكامل منظومة الصرف والإنفاق في هذه الظروف العصيبة.

هم يعرفون جيداً أن هذين القرارين ينطويان على عيوب أخلاقية، وعلى استهتار سياسي، ويعكسان إنفكاكاً مُخيفاً عن الواقع، إضافة إلى أنّهم يعرفون بكل تأكيد الموقف الجماهيري من هكذا قرارات في ظل ما نمرُّ به من صعوبات وأزمات، وهم يعرفون جيداً أن مثل هذه القرارات تُسيء إلى الموقف الشعبي الداعم والمساند للسلطة الوطنية، ومع ذلك لا يتورعون على ما يبدو عن الإقدام على تصويرها للرئيس وكأنها قرارات "عادية"، بل والأرجح أنهم يقدمونها باعتبارها حالة "منسجمة" مع سياسات التقشف وتقليص الإنفاق.

من هم هؤلاء الذين يمتلكون كل هذه "الجرأة" للإقدام على هذا العبث، وتعريض سمعة المؤسسة الوطنية لهذه الدرجة من الأذى والضرر...؟؟ أن تكون المسالة هي مجرّد أنانية مفرطة، ومصالح فئوية وصلت إلى درجة الهوس، ووصل بها الإستهتار إلى هذه الدرجة، وأصبح لديها القدرة والسهولة والإمكانيات للقيام بذلك فهذه مصيبة كبرى بكل المقاييس، ومع ذلك ليت أن الأمور هي فعلاً كذلك، وليت أن الإنفصال عن الواقع هو من أوصلهم إلى هذه الحدود، وليت أن مناصبهم وامتيازاتهم هي الدافع الوحيد لهكذا ممارسات...!! الخشية والخوف الحقيقي أن يكون هذا الإستهتار وهذه الأنانية المُفرطة، وهذا التخطيط للتكسّب والتكويش، وما يحدثه في الجسد الوطني والنسيج الاجتماعي، وما يلحقه من خسائر سياسية صافية إنما هو آخر إهتماماتهم، وآخر ما يعنيهم وما يضعوه في اعتباراتهم، هنا لا تعود المسألة مجرّد جشع، ولا حتى استثمار مواقعهم وتكريسها لامتيازاتهم ومصالحهم، لأن الإستهتار السياسي بمكانة السلطة الوطنية، وبالنسيج الوطني والإجتماعي والضرر الذي يترتب على هذا الإستهتار مسألة وطنية بامتياز، والمسائلة عليها تتعدّى استغلال المنصب والنفوذ، وتتجاوز الإمتيازات والمكاسب...

ليست هذه هي المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة التي يتم إيقاع السلطة الوطنية في هذا المطبّ وهذا الإحراج، وليست هذه المرة الأولى التي يتم من خلالها (بصورة مريبة ومُلفتة للنظر) الهدم السريع والمفاجئ لكل ما تحاول أن تبنيه السلطة الوطنية على الأرض، وما تجهد لإقامته من جسور الثقة مع الناس، لا أذكر إن كان للسلطة الوطنية منذ عدة سنوات خلت هذه السُمعة وهذه الهيبة عند الناس كما هو حالها في هذه الظروف، فلماذا إذا كلّما بدأ الناس بتقدير الجهود، وتثمين السياسات والممارسات والبدء بمد جسور الثقة نُفاجئ بهذه "الإرتجالات"، ويباغتنا البعض بهكذا قرارات وتوجهات..؟؟ من هم هؤلاء الذين يتربصون بسمعة السلطة الوطنية وأدائها واستعادة مساحات واسعة من الثقة بها...؟؟ وهل أن الأمر مجّرد مكاسب ومنافع وغنائم وامتيازات...؟؟

أجزمُ أن أصحاب المشروع الوطني والهمُ الوطني والملتصقين بهذا المشروع وهذا الهّم هم أكثر الناس ألماً وشعوراً بالغصّة والحرقة والغضب من هذين القرارين، كما كان الامر في مناسبات إصدار قرارات مشابهة ومثيله بما في ذلك الظلم الذي وقع على بعض الناس وعلى كوادر كثيرة من حركة فتح في قطاع غزة.

صحيح أننا نشعر بالامتنان لقرارات الرئيس بتجميدها كما كان الأمر بالنسبة لقرارات أخرى سابقة، وصحيح أن هذا التجميد هو فضيلة كبرى إلّا أن من واجبنا أن نصارح الرئيس ومن حقنا عليه أن يتحقق بنفسه عن أسباب ودوافع وطرائق من يتحملون وِزر هذه القرارات، وأدعي أن الرئيس أول من يقدّر الدافع وراء هذه الصراحة وهذا الوضوح، وقد آن الأوان على ما يبدو لإلغاء هذه البِدْعَة (بمرتبة وزير) لأنها خارج كل الاعتبارات الإدارية والفنية والمهنية.