مصر التى فى خاطرى تمرض ولكنها لا تموت ..السفير د. عبدالله الأشعل

الخميس 30 أبريل 2020 11:13 ص / بتوقيت القدس +2GMT
مصر التى فى خاطرى تمرض ولكنها لا تموت ..السفير د. عبدالله الأشعل



كتبت هذا المقال عام 2010 وشغلت عن نشره في حينه وأظن أنه لايزال صالحا للنشر ولذلك أنشره كحلم ربما تتمكن أجيال قادمة من تحقيقه فمصر تمرض لكنها لاتموت
عندما غنت أم كلثوم لمصر كانت تقرر حقيقة واقعة أما عنوان هذه المقالة فهو حلم قد لا يتحقق فى أجيال قليلة قادمة بسبب المعادلات التى حكمت نظام الحكم فى مصر وربطت بينه وبين الحسابات الإقليمية والدولية خاصة وأن كاتب المقال يعتقد اعتقاداً جازماً بأن مصر التى يحلم بها تقف إسرائيل لهذا الحلم لوئده فى مهده بطرق مختلفة ولذلك فإن حلمى بالنسبة لمصر إن تحقق فى غفلة من إسرائيل والغرب فإنه سوف يسهم فى اعادة رسم الخرائط وليس فيها إسرائيل ولذلك فإن الاتجاهات التى ظهرت فى مصر وتطالب بمحور مصرى إيرانى تركى تهدف إلى تحقيق هذا الحلم بعد أن تسللت إسرائيل وراوغت العقل العربى المنهك بالاستبداد والمؤامرة والزيف وقوامه أن إسرائيل هى رسول الديمقراطية ونموذج الرخاء فى المنطقة العربية وفى القلب منها إسرائيل وهذا الحلم المراوغ قدمته إسرائيل مراراً على أساس التزاوج بين العرب وإسرائيل على فرض أن إسرائيل تلتهم كل فلسطين وأن التضحية بفلسطين يقابله السلام الأبدى والرخاء المضمون وهذا هو الوهم الكبير الذى روجه بعض الحكام العرب خاصة الرئيس السادات الذى بشر المصريين بأنهار العسل وعصر الرخاء والحرية عندما وقع صفقة كامب دايفيد المسماه خطأ وزيفاً معاهدة السلام والتى انتجت لمصر وللعرب اشواكاً تحاول القضاء على الوجود العربى.
ولذلك فإن معضلة إسرائيل فى حلم الكاتب لمصر يجب أن تعالج بشكل لا يستسلم للواقع البائس ولا لأحلام اليقظة لبعض الحكام الذين يجهلون طبيعة المشروع الصهيونى.
فمصر التى فى خاطرى لها ملامح وأوصاف لابأس من إيرادها لعل أجيالا أقدر منا تستطيع أن تحقق هذا الحلم الذى يتباعد ولا نكاد نرى منه إلا أحلام اليقظة.
والحلم لمصر جسده حافظ إبراهيم عندما جعل مصر تتحدث عن نفسها وقد رأينا مصداق ذلك فى أيامنا “أنا إن قدر الإله مماتى – لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدى .” أما ملامح مصر التى أحلم بها فهى صورة الدولة العادية التى سيئ بها بلا مبرر لأن مصر تملك جميع عناصر القوة والعظمة ولكن عدم استخدام هذه العناصر بشكل إيجابى باعد بين واقع مصر الحالية وبين حلم الكاتب .
وقد شعرت بالأسئ لأجيال من العباقرة الذين كانت تراودهم هذه الاحلام لمصر ولكنهم قهروا على تركها وماتوا فى الغربة وقلوبهم تنبض بحبها وتأسى على تقصيرهم فى تحقيق حلمهم لها كما أن العباقرة الذين اختاروا البقاء فيها يتأرجحون بين الضيق بأوضاعها وبين اليأس من إصلاحها خاصة وأن عشرات العوامل تجر مصر إلى الخلف حتى صارت فى وضع لم نكن نتمنى أن يكون فى أسوأ كوابيسنا.
ومصر الحلم هى مصر التى تتصف بالصفات التالية:
أولاً : دستور يجمع عليه الشعب بإرادته الحرة ولا يكون دستور الحاكم يضعه ثم يخترقه لكى يثبت للعالم بأن حكمه شرعى وحتى فى مصر الملكية كان الدستور منحة من الملك ولذلك كان الصراع مستمراً بين الرجال فى مصر نيابة عن الشعب وبين الملك على احترام الدستور وكان للعقاد موقف مشهور فى ذلك .
والدستور عادة هو المرجعية العظمى التى تحقق آمال الشعب وتنظم أوضاع السلطة وتقدم الضمانات للحقوق والحريات وتجعل الشعب هو مصدر السلطات ومصدر السيادة ولكن تحايل السلطة فى مصر تاريخياً على الدستور وانتهاكه جعلت القوة والأمر الواقع فوق ارادة الشعب الذى لم يتمكن حتى اليوم من التعبير الصحيح عن ارادته الحرة سوى فى فترة قصيرة حققها المجلس العسكرى بعد ثورة 25 يناير رغم أن مصر لم تكن بحاجة إلى دستور جديد ولكنها دائماً بحاجة إلى احترام السلطة للدستور القائم.
ثانياً: سيادة القانون الذى تضعه سلطة منتخبة انتخاباً حراً احتراماً لأحكام الدستور فليس اصدار التشريعات بما يخالف الدستور ولخدمة أغراض معينة هو القانون.
ثالثاً: الفصل بين السلطات ثم التعاون بينها لتحقيق الأهداف العليا للوطن ويترتب على ذلك أن المتهم يظل بريئاً حتى تثبت ادانته فى محاكمة عادلة وفقاً لقانون عادل وقضاء مستقل وأن يحتكم القضاه إلى ضمير مهنى والتزام دينى أساسه تلك الآية التى تزين مقعد القاضى وراء ظهره “وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل”. ويترتب على ذلك أيضاً أن الشرطة تحترم القانون وأن يكون رجالها قدوة فى احترامه تحت رقابة صارمة من أجهزة الوزارة والرأى العام والإعلام وأن تكون النيابة سلطة تنقية تحقيقات الشرطة وإذا قررت النيابة تحويل القضية إلى القضاء كان القضاء هو حائط الصد للعدالة ودولة القانون بحيث يطمئن المتهم إلى عدالة حقيقية فيسعد ببراءته ويرضى بحكم الإدانة مادامت مراحل العدالة سليمة .
كذلك نحلم بأن السلطة التنفيذية تحترم السلطات الأخرى وأن يقوم البرلمان بدوره المرسوم فى الدستور وأن يكون القانون الذى يصدره البرلمان ملزماً للجميع وأن يحترم الجميع حكم القضاء المستند لهذا القانون وأن يسود العدل والمساواة وتكافؤ الفرص وكفالة الحريات والحقوق ورفع مستوى المجتمع كما يرتفع مستوى السلطة فى المصداقية والأداء وأن تكون الكفاءة وحدها هى معيار الوظائف العامة .
رابعاً: موارد الدولة :مصر دولة غنية بثرواتها الفريدة وخاصة الثروة التاريخية والثروة البشرية والثروات الطبيعية والثروات الناجمة عن الموقع الجغرافى ولذلك أحلم بمصر التى تدار فيها الموارد ادارة رشيدة نزيهة وأن يكون الإنسان وشعوره الوطنى هو حجر الزاوية فى فلسفة الادارة فبغير الإنسان المصرى تفنى مصر ولكن تحيا مصر بأبنائها الأحرار وليس بالشعارات. ولذلك فإننى أحلم بأن تكون مصر واحة الأمان والاستقرار بعد أن تكون المؤسسات جميعا فى أماكنها وأن يكون الحكم لمن يختاره الشعب وحده وأن يكون الحاكم عرضة للمساءله والحساب وأن يختفى النفاق والدجل والانتفاع بسلوكيات أصبحت تسئ إلى مصر وإلى شعبها ولا نفصل فى ذلك فالأمر أوضح من أن يفصل .
خامساً: الاقتصاد المصرى والعلاقات الخارجية إذا كانت مصر غنية بكل مكوناتها فإنها جديرة بإقامة اقتصاد بالغ القوة ترتكز إليه قوة الدولة فى رخائها وأمنها وتجارتها وتنوع منتجاتها ومنافستها لغيرها فى جميع المجالات الايجابية. ولم يكن هذا الحلم فى فراغ فقد كانت مصر كذلك حتى عصر الملكية بل كان الجنيه المصرى يتفوق على جميع العملات الأوروبية وكانت القاهرة أنظف مدينة فى العالم وكان الأوروبيون يأتون فى مراكب سرية للعمل فى مصر ولذلك أحلم بأن يعود كل أبناء مصر من المنافى والمهاجر إلى أحضان وطنهم وأن تقوم إدارة رشيدة بوضعهم فى دورات الانتاج والبناء وأن يعود العلماء إلى وطنهم بعد أن يوفر لهم المناخ الملائم لتقدير العلماء والاستفادة من علمهم بدلا من استنزاف هذه العقول النيرة لصالح دول أخرى تتأمر على مقدرات مصر وتبعيتها.
ومع احترامنا لكل الوحدات القائمة فى العالم العربى فإن مصر لا يمكن أن تقارن بغيرها فى أى مجال ولم تظهر المقارنة إلا فى السنوات الأخيرة التى أصبحت فيها مصر بحق رجل المنطقة المريض.
أما السياسة الخارجية فهى حاصل عناصر قوة الدولة ولا يمكن أن تنشأ سياسة خارجية فى الأحلام وحسب الأهواء لأن المجتمع الدولى مزدحم بالقضايا والدول ومن لم يسارع إلى تحقيق القوة لدولته وأولها تماسك المجتمع وشفافية الحكم ومصداقية أدواته وإعلامه فإن السياسة الخارجية تصبح موضوعاً للإنشاء وليس سلوكاً لدولة ومصر تستحق أن تكون دولة عظمى فى منطقتها ليس بالأقوال ولكن بالسلوك ولا يخفى أن جميع مشاكل مصر الداخلية والخارجية ترجع أساساً إلى غياب الرؤية الصائبة والادراك الحقيقى لقدرات مصر ومقدراتها وعدم سلامة الادارة فى مفاصل الدولة واتجاه بعض المؤسسات إلى الهيمنة على مقدرات الدولة وغياب الارادة الحرة للمواطن الواعي وإذا تحققت هذه الأمور فلن يكون فى مصر معتقل أو سجين وتزدهر الحريات وتصان الحقوق وتزدهر المؤسسات ويصح الإعلام ويشعر المواطن فى وطنه بالأمن والحرية والسلام وتصبح مصر سنداً لمنطقتها وللسلام العالمى وتعود مصر مرة أخرى فى صدارة المؤشرات العالمية لأوراق القوة ولن يتحقق ذلك إلا إذا عاد المصريون إلى وعيهم ونبذوا مصالحهم الشخصية الضيقة وأستعادوا العقل المصرى النير الذى يعتمد على العلم والثقافة وليس التدليس والتجهيل وتغييب العقل وتسطيح الأمور وتلك دعوة إلى كل المصريين دون استثناء وهى مسؤولية الحاكم والنخب وفى رقابهم مستقبل الشعب الذى ينتظر الطريق الصحيح إلى المستقبل.
كاتب ونائب وزير الخارجية المصري الاسبق