أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه و كرم وجهه عليه السلام .
علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي - أبو الحسن : (رضي الله عنه)
تلكأت ، و تحججت بالصيام ، و الحاجة إل التركيز لكتابة هذا الجزء ، حول خصال و ملامح سيدنا الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، و بما أني قلت للتو " عليه السلام " فهي فرصة لطرق هذا الباب ، الذي ، و أثناء قراءاتي حول سيدنا علي ، وجدت نوعاً من التخصيص ، و غرابة في الترميز و بصراحة إستهجنتها ، فتجد معظم أهل السنة يصرون على الترضي عنه ، أو الحاق إسمه بلفظ ( كرم الله وجهه ) ، و كأن لفظ " عليه السلام " مخصص للشيعة ومن والاهم .. و الحقيقة أن كل ما يقال حقيقي و مستحق له .. فهو من آل محمد الذين ندعوا الله في كل صلاة لهم أن يصلي الله ويسلم على محمد و آل محمد فهو إبن عم النبي و ربيبه ، و زوج إبنته وهو الصحابي الجليل ، و هو ولي الله ورسوله ، و هو الفدائي الأول ، وهو من إصطفاه الله و رسوله ليحمل رسالة مع غيره و كيف لا يسلم المؤمن عليه و يصلي و قد قال الله تعالى في الآية 59 من سورة النمل : "قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ ۗ .. "
وعود على بدء ، فخوفي من الكتابة عن الإمام علي كرم الله وجهه ، و شعوري بالضآلة كلما تكشفت لي أجزاء من عظمته ، كان يملأني بالمهابة و التردد ، ومازال ، فمن أنا ومن غيري ليتحدث عن هذا الإمام ؟ وقدخاض الغمار مئات بل آلاف من الكتاب و المؤرخون و الشيوخ و العلماء ، و كتبوا فيه ما يملأ الأفق ، وما أوفوه حقه وما أحاطوا بالقليل من عظمته ..
غير أني بعد أن تجاسرت ، قررت أن ألفت النظر ، وليس أن أحلل أو أحاول أن أتجرأ بالكتابة عنه رضي الله عنه و أرضاه بل بالكتابة حول ما ذكره الذاكرون عنه ، و أن أسلط الضوء على بعض ما جاء في سيرته عليه السلام ..
و قد لفت إنتباهي عدة محاور في سيرته ، من بينها ما يخالف كثيراً مما رسخ في عقولنا ووجداننا ، و نحن نقرأ عنه أنه الفارس المقدام ، قليل التمتع الزاهد بالدنيــا ، الطالب للآخره ، وهو رقة قلبه رضوان الله عليه ، و تسامحه و لطفه ،ولين معاملاته و كم الحب الذي ملأ قلبه ..وطيف لا يكون على هذا الحال و هو ربيب رسول الله ، فبعد أن ولد (كرم الله وجهه) في يوم الجمعة، الثالث عشر من رجب، بعد عام الفيل بثلاثين سنة، قبل البعثة بعشر سنين، ما لبث أن إنتقل ليعيش في كنف كفيله »
محمَّد(صلى الله عليه وسلم)، فرُبِّي في حجر النبي (صلى الله عليه وسلم) ولم يفارقه، والنبي (صلى الله عليه وسلم) يرعاه وينفق عليه، فحاز بذلك من الشرف ما لم يحزه غيره.. فقد نشأ يستلهم من معلِّمه مكارم الأخلاق و الحكمة والمعرفة حتى تطبّع بصفات كافله، ولم تكن فيه صفة الا وهي مشدودة بصفات معلِّمه الأول والأخير، وتحلَّى بأعلى ذروة من ذرى الكمال الروحي والأخلاقي، ووصف الإمام علي بن ابي طالب تلك الأيام القيِّمة مبيّنا فضلها واختصاصه بها علي من سواه، فقال: «وقد علمتم موضعي من رسول الله بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يضمُّني الى صدره.. وكان يمضغُ الشيء ثُمَّ يُلقمنيه، وما وجد لي كذبةً في قول، ولا خطلة في فعل.. ولقد كنت أتَّبعه اتباع الفصيل أثر أمِّه، يرفع لي في كلِّ يومٍ من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وخديجة وأنا ثالثهما.
ورغم التناقض في مظهره ،الشديد المتين ، وما في قلبه من عاطفة و حنين ، فقد كان ربعة من الرجال إلى القصر ما هو ، أدعج العينين أحسن الوجه كأنه القمر ليلة البدر حسنا ، عظيم البطن ، عريض المنكبين ، شثن الكفين ، أغيد كأن عنقه إبريق فضة ، أصلع ليس فى رأسه شعر إلا من خلفه ، كثير اللحية ، لمنكبه مشاش كمشاش السبع الضارى ، لا يتبين عضده من ساعده قد أدمجت إدماجا ، إذا مشى تكفأ ، و إذا أمسك بذراع رجل أمسك بنفسه ، فلم يستطع أن يتنفس ، و هو إلى السمن ما هو ، شديد الساعد و اليد ، إذا مشى إلى الحرب هرول ، ثبت الجنان ، قوى ، شجاع ، منصور على من لاقاه .
صفات مهيبة ، ترعب من يواجهه ، و لا يعرف مكنون صدره و رفعة أخلاقه ، و يكفي أن نتذاكر تلك الرقة و اللطف في مشاعره التي جمعته بإبنة إبن عمه ، و نبيه ، السيدة الطاهرة المصطفاه فاطمة عليها و على أبيها ألصلاة و السلام ،حين نظم شعرًا في حبيبته التي شغف بها وتعلق بها قبل زواجه منها، فهي ابنة عمه قبل أي شيئ وسيدة قلبه في نهاية كل شئ، قال عندما دخل عليها فوجدها تتسوك :
حظيت يا عود الأراكِ بثغرها *** أما خفت يا عود الأراك أراكَ
لو كنت من أهـل القتال قتلتك *** ما فـاز منـي يا سِواكُ سِواكَ
وكان محبــا لإبنة عمه ، بتعفف ، وهو الذي قال إنَّ الله يقذف الحب في قلوبنا، فلا تسأل مُحب لماذا أحببت ؟ !
وفي قصة تقدمه لخطبتها رواية ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: "خَطَبْتُ فَاطِمَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ لِي مَوْلاةٌ لِي: هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ فَاطِمَةَ قَدْ خُطِبَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ؟ قُلْتُ: لا، قَالَتْ: فَقَدْ خُطِبَتْ فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ فَيُزَوِّجُكَ.
فَقُلْتُ: وَعِنْدِي شَيْءٌ أَتَزَوَّجُ بِهِ؟ فَقَالَتْ: إِنَّكَ إِنْ جِئْتَ رَسُولَ اللَّهِ زَوَّجَكَ فَوَاللَّهِ مَا زَالَتْ تُرْجِينِي حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ جَلالَةٌ وَهَيْبَةٌ فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ أُفْحَمْتُ فَوَاللَّهِ مَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ فَقَالَ: "مَا جَاءَ بِكَ أَلَكَ حَاجَةٌ؟ "فَسَكَتُّ، فَقَالَ: "لَعَلَّكَ جِئْتَ تَخْطُبُ فَاطِمَةَ؟ "فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: "فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تَسْتَحِلُّهَا بِهِ؟ "فَقُلْتُ: لا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: "مَا فَعَلَتِ الدِّرْعُ الَّذِي سَلَحْتُكَهَا؟ "فَقُلْتُ: عِنْدِي وَالَّذِي نَفْسُ عَلِيٍّ بِيَدِهِ إِنَّهَا مَا ثَمَنُهَا أَرْبَعُ مِائَةِ دِرْهَمٍ، قَالَ: "قَدْ زَوَّجْتُكَهَا فَابْعَثْ بِهَا"، فَإِنْ كَانَتْ لَصَدَاقُ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
وتزوج علي فاطمة ، و عاش معها في سعادة وصفها هو بقوله : كُنّا كزوجٍ حمامةٍ في أيكةٍ متمتعينَ بصحةٍ وشبابِ .. دخلّ الزّمانُ وفرّق بيننا إن الزمانَ مفرِّقُ الأحبابِ.
فقد تألم لموتها ، و كان يذكرها دائماً و يقول : لكلِّ اجتاعٍ من خليلين فرقةٌ وكلُّ الذي دونَ الفراقِ قليلُ .. وإن افتقادي فاطماً بعد أحمدٍ دليلٌ على ألا يدومَ خليلُ.
و ربما من العجيب في سيرة مولانا الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، أنه هو ذاته كان ربيب النبي ، و أنه أيضاً كان مربياً لإبن الصديق رضوان الله عليه ، نعم ، هو من ربى إبن أبي بكر الصديق .. و في هذا إجابة لسؤال كبير ، و إفشال لعوار عميق ، طال الأمة و ألحق بها الأذى على مدى التاريخ و إلى يومنا هذا .. ولمن لا يعرف ، فقد ترزوج علي بن أبي طالب عليه السلام من السيدة اسمها أسماء بنت عميس ، وتكنى بأم عبد الله. وأمها هند بنت عوف بن زهير بن الحارث، وأختها لأبيها وأمها سلمى بنت عميس زوجة حمزة بن عبد المطلب، وإخواتها لأمها زوجة النبي أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث وأم المؤمنين زينب بنت خزيمة ولبابة الصغرى بنت الحارث أم خالد بن الوليد ولبابة الكبرى بنت الحارث زوجة العباس بن عبد المطلب ، أنظر إلى هذا الجمع من الأنوار حول هذه السيدة بالله عليك ، أنظر إلى الأسماء مرة ثانية ، عاود القراءة أرجوك ، ثم عد و أكمل لتعرف أن أسماء بنت عميس رضي الله عنها اسلمت اول البعثة وهاجرت الى الحبشة مع زوجها جعفر بن ابي طالب رضي الله عنهما ثم هاجرت الى المدين فهي ممن هاجر الهجرتين وولدت لجعفر عبدالله ابن جعفر رضي الله عنهما ولما استشهد جعفر رضي الله عنه في مؤته تزوجها أبو بكر الصديق رضي الله عنه فانجبت له محمد ابن ابي بكر رضي الله عنهم وهم ذاهبون مع النبي صلى الله عليه وسلم للحج ولما توفي أبا بكر رضي الله عنه تزوجت علي بن ابي طالب وانجبت له يحيى وعون ، و معها محمد بن أبي بكر الصديق الذي أصبح ربيباً لعلي .. فأصبح ربيباً لإمام من يطلقون على أنفسهم " الشيعة و العلوين " و غيرهم ، وحفيداُ للأمام جعفر ، و إبناُ لإمام أهل السنة البكريين أبو بكر الصديق .. و بالطبع هو أحد إثباتات بطلان كل تلك المزاعم و المذاهب التي لا أصل لها و لا فرع في صحيح الإسلام . قال الإمام جعفر الصادق ـ مؤسس المذهب الجعفري حسب اعتقادهم ـ قوله مفتخراً (أولدني أبو بكر مرتين) (كشف الغمة ، للأربلي ، (2 / 374) لأن نسبه ينتهي إلى أبي بكر الصديق من طريقين : الأول : عن طريق والدته فاطمة بنت قاسم بن أبي بكر . والثاني : عن طريق جدته لأمه أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر التي هي أم فاطمة بنت قاسم بن محمد بن أبي بكر
وفي هذا إيجاز ، يلغي فكرة وجود خلاف أصلاً ، إلا في عقول من ثاروا على عثمان ، و قتلوه ، و أرادوا بعد قتله أن تستمر القلاقل ، بتغذية من الروم و الفرس ، المتربصين في الخارج ، و اليهود في الداخل ، و غيرهم من العرب ، الذيم أرادوا نسف أركان الجمهورية المصطفوية ، و تحطيمها ، و تشتيت جمع المؤمنين ، ببث الفتنة تلو الفتنة ، تارة بحجة العدل و المساواة و محاربة الفساد ، و تارة بالتذرع بالحفاظ على الدين ، و كأنهم أعرف بالدين من الصحابة ، فكان ماكان ، حتى أنهم هم ذاتهم خانوا علياً و الحسن و الحسين من بعده ، فقد جاء في الأثر و الرواية أن أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ،علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في آخِر خلافَتِه ، قَدِ انْتَقَضَتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ، وَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ الْأَحْوَالُ ، وَخَالَفَهُ جَيْشُهُ مَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهِمْ ، وَنَكَلُوا عَنِ الْقِيَامِ مَعَهُ ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ أَهْلِ الشَّامِ وَصَالُوا وَجَالُوا يَمِينًا وَشِمَالًا زَاعِمِينَ أَنَّ الْأَمْرَ لِمُعَاوِيَةَ ؛ بِمُقْتَضَى حُكْمِ الْحَكَمَيْنِ فِي خَلْعِهِمَا عَلِيًّا ، وَتَوْلِيَةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مُعَاوِيَةَ عِنْدَ خُلُوِّ الْإِمْرَةِ عَنْ أَحَدٍ ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ أَهْلُ الشَّامِ قُوَّةً ، ضَعُفَ جَأْشُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَوَهَنُوا، هَذَا وَأَمِيرُهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ ، فَهُوَ أَعْبَدُهُمْ وَأَزْهَدُهُمْ ، وَأَعْلَمُهُمْ وَأَخْشَاهُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ خَذَلُوهُ وَتَخَلَّوْا عَنْهُ ، وَقَدْ كَانَ يُعْطِيهِمُ الْعَطَاءَ الْكَثِيرَ وَالْمَالَ الْجَزِيلَ
وقدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ وَالسِّيَرِ وَأَيَّامِ النَّاسِ ، أَنَّ ثَلَاثَةً مِنِ الْخَوَارِجِ ; وَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الْمَعْرُوفُ بِابْنِ مُلْجَمٍ الْحِمْيَرِيُّ ، وَالْبُرَكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ ، وَعَمْرُو بْنُ بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ ، اجْتَمَعُوا فَتَذَاكَرُوا قَتْلَ عَلِيٍّ إِخْوَانَهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّهْرَوَانِ ، فَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: مَاذَا نَصْنَعُ بِالْبَقَاءِ بَعْدَهُمْ ؟! كَانُوا مِنْ خَيْرِ النَّاسِ ، وَأَكْثَرَهُمْ صَلَاةً ، وَكَانُوا دُعَاةَ النَّاسِ إِلَى رَبِّهِمْ ، لَا يَخَافُونَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ ، فَلَوْ شَرَيْنَا أَنْفُسَنَا فَأَتَيْنَا أَئِمَّةَ الضَّلَالَةِ فَقَتَلْنَاهُمْ ، فَأَرَحْنَا مِنْهُمُ الْبِلَادَ ، وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ثَأْرَ إِخْوَانِنَا.
فَقَالَ ابْنُ مُلْجَمٍ : أَنَا أَكْفِيكُمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، وَقَالَ الْبُرَكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : أَنَا أَكْفِيكُمْ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ بَكْرٍ: أَنَا أَكْفِيكُمْ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ .
فَتَعَاهَدُوا وَتَوَاثَقُوا أَنْ لَا يَنْكِصَ رَجُلٌ مِنْهُمْ عَنْ صَاحِبِهِ حَتَّى يَقْتُلَهُ أَوْ يَمُوتَ دُونَهُ ، فَأَخَذُوا أَسْيَافَهُمْ فَسَمُّوهَا، وَاتَّعَدُوا لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ ، أَنْ يُبَيِّتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ فِي بَلَدِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ .
فَأَمَّا ابْنُ مُلْجَمٍ فَسَارَ إِلَى الْكُوفَةِ فَدَخَلَهَا ، وَكَتَمَ أَمْرَهُ حَتَّى عَنْ أَصْحَابِهِ مِنَ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ هُمْ بِهَا، ثمّ ضمّ إليه رجُل مِنْ تَيْمِ الرِّبَابِ يُقَالُ لَهُ: وَرْدَانُ. لِيَكُونَ مَعَهُ رِدْءًا، وَاسْتَمَالَ رَجُلًا آخَرَ يُقَالُ لَهُ: شَبِيبُ بْنُ بَجَرَةَ الْأَشْجَعِيُّ الْحَرُورِيُّ.
فَجَاءَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ وَهُمْ مُشْتَمِلُونَ عَلَى سُيُوفِهِمْ، فَجَلَسُوا مُقَابِلَ السُّدَّةِ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا عَلِيّ ٌ، فَلَمَّا خَرَجَ جَعَلَ يُنْهِضُ النَّاسَ مِنَ النَّوْمِ إِلَى الصَّلَاةِ ، وَيَقُولُ: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ ، فَثَارَ إِلَيْهِ شَبِيبٌ بِالسَّيْفِ ، فَضَرَبَهُ فَوَقَعَ فِي الطَّاقِ ، فَضَرَبَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ بِالسَّيْفِ عَلَى قَرْنِهِ ، فَسَالَ دَمُهُ عَلَى لِحْيَتِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَلَمَّا ضَرَبَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ قَالَ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ ، لَيْسَ لَكَ يَا عَلِيُّ وَلَا لِأَصْحَابِكَ ، وَجَعَلَ يَتْلُو قَوْلُهُ تَعَالَى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) وَنَادَى عَلِيٌّ: عَلَيْكُمْ بِهِ.
وَهَرَبَ وَرْدَانُ، فَأَدْرَكَهُ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ فَقَتَلَهُ ، وَذَهَبَ شَبِيبٌ فَنَجَا بِنَفْسِهِ وَفَاتَ النَّاس َ، وَمُسِكَ ابْنُ مُلْجَمٍ ، وَقَدَّمَ عَلِيٌّ جَعْدَةَ بْنَ هُبَيْرَةَ بْنِ أَبِي وَهْبٍ فَصَلَّى بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، وَحُمِلَ عَلِيٌّ إِلَى مَنْزِلِهِ ، وَحُمِلَ إِلَيْهِ ابْنُ مُلْجَمٍ، فَأُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ مَكْتُوفٌ ، قَبَّحَهُ اللَّه ُ، فَقَالَ لَهُ: أَيْ عَدُوَّ اللَّه ِ، أَلَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ؟ قَالَ: بَلَى ، قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: شَحَذْتُهُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، وَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يَقْتُلَ بِهِ شَرّ خَلْقِهِ ، فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ: لَا أُرَاكَ إِلَّا مَقْتُولًا بِهِ، وَلَا أُرَاكَ إِلَّا مِنْ شَرِّ خَلْقِهِ ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ مِتُّ فَاقْتُلُوهُ ، وَإِنْ عِشْتُ فَأَنَا أَعْلَمُ كَيْفَ أَصْنَعُ بِهِ.
وَلَمَّا احْتُضِرَ عَلِيٌّ جَعْلَ يُكْثِرُ مِنْ قَوْلِ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَا يَنْطِقُ بِغَيْرِهَا - وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ آخِرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)
وَقَدْ أَوْصَى وَلَدَيْهِ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ، وَغَفْرِ الذَّنْب ، وَكَظْمِ الْغَيْظِ ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ ، وَالْحِلْمِ عَنِ الْجَاهِلِ ، وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ ، وَالتَّثَبُّتِ فِي الْأَمْرِ، وَالتَّعَاهُدِ لِلْقُرْآن ِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاجْتِنَابِ الْفَوَاحِشِ ، وَوَصَّاهُمَا بِأَخِيهِمَا مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ ، وَوَصَّاهُ بِمَا وَصَّاهُمَا بِهِ ، وَأَنْ يُعَظِّمَهُمَا وَلَا يَقْطَعَ أَمْرًا دُونَهُمَا، وَكَتَبَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي كِتَابِ وَصِيَّتِهِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاه وفي حياته الكثير من الفصول و العبر ، التي لا يمكن أن تلخص في هذه العجالة و لكن علي بن أبي طالب سيظل سيِّد العرب وقطب العارفين وقائد الثوار و الأحرار ، رئيس الجمهورية المصطفوية ، وان من يقرأ سيرته يجدها صفحة خالدة من صفحات المجد والسمو، فيها عالم المُثل العادلة ومبادئ العظمة والاستقامة والخصائص الفريدة، سيرة رجل عاش لله، وليس فيه شيء لغيره، يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه، ويحب فيه، ويبغض فيه، أعظم الناس جهاداً في سبيله وأكثرهم معرفة بشريعته وعملاً بأحكامها واحياءً لمعالمها.. فجاءت سيرته تجسيداً لرسالة الاسلام، بل كانت اسلاماً يتحرك على الأرض.. انه الكتاب الناطق والسّنة الحية.