العالم، وفي الشهر الرابع من العام 2020، مدن أشباح خاوية من أي ضجيج يذكر، ضحايا بأعداد كبيرة، دور عبادة بلا مصلين، مطارات بلا إقلاع أو هبوط وقاعات انتظار بلا مسافرين، مدارس وجامعات ومعاهد بلا طلاب ولا مدرسين، مطاعم ومقاهي لا تستقبل أحداً، محال مغلقة في شوارع خالية وعقول وقلوب مليئة بالخوف.
منازل قبع فيها ساكنوها بعد أن أيقنوا أن شبح كورونا قد يدخل من أي مدخل وفي أي وقت ليلتهم أنفاسهم وينهي حياتهم دون دواء متاح أو علاج ممكن إلى الآن. وحدها المستشفيات والمقابر هي ما يحمل ضجيج الحياة المتبقي منذ مطلع العام إلى يومنا هذا. ووحدهم الطواقم الطبية من أطباء وممرضين وعاملين في القطاع الصحي، وقطاعات البحث العلمي من يحملون على عاتقهم نجاة البشرية من هذا الكابوس المرعب.
وكأن ما سبق مشهد مقتبس من فيلم رعب سينمائي، لكنه مع الأسف حقيقة واقعة، وحقيقة جاثمة تحدق بوجه العالم إلى ساعة كتابة هذه الكلمات. ومن ثم يمكن القول، إنه من السابق لأوانه التكهن بما سيبدو عليه العالم من النواحي الصحية والاقتصادية والاجتماعية والتعليم وغيرها في حال انتهاء جائحة كورونا والسيطرة عليها.
لكن جميع التقديرات تصب في استنتاج واحد يلخص، بأن العالم ما بعد كورونا لم ولن يبدو بأي شكل من الأشكال كما كان قبله، في حين تضاربت التوقعات حول الجدول الزمني، إن وجد، الذي ستستغرقه هيئات الصحة والبحث العلمي للتوصل للقاح وعلاج لفيروس كوفيد 19 من عائلة فيروسات كورونا. كما ذهب باحثون أمريكيون لأعقد من ذلك بتوقع إعادة ظهور الفيروس الخريف المقبل في دورة حياته المتوقعة. بينما لا زال العالم إلى يومنا هذا يجهل طريقه القضاء على هذا الفيروس الذي ظهر في مدينة ووهان الصينية في كانون الأول/ ديسمبر 2019 لينتشر انتشار النار في الهشيم مصيبا كل بقعة من بقاع المعمورة.
ولازال العالم يشهد في كل لحظة أعدادا جديدة من الإصابات والوفيات دون التوصل إلى بارقة أمل في ما يتعلق بأبحاث إيجاد عقار له في الأفق القريب. مما يجعل كافة الاحتمالات مفتوحة لما قد تصل اليه الأمور ويذكرنا بسيناريو مرعب وهو ما حدث في العام 1918 أعقاب الحرب العالمية الأولى في أوروبا والعالم وما اصطلح عليه إبانها بالأنفلونزا الأسبانية و هي جائحة سببها فيروس بسرعة العدوى بشكل ما يشابه سرعة انتقال فيروس كورونا. حينذاك أصيب 500 مليون شخص بالعدوى وحصد الفيروس حياة ما بين 50 إلى 100 مليون شخصا، أي ما يعادل ضعف المتوفيين في الحرب العالمية الأولى وفقا للمصادر التاريخية.
وعلى اثر ظهور الفيروس في مدينة ووهان، دخلت الصين في خانة من "الاتهامات"، إن صح التعبير، اتهامات قادتها الولايات المتحدة الأمريكية والتي ذهب رئيسها دونالد ترمب لأبعد من الاتهامات بتسمية فيروس كوفيد 19 "بفيروس الصين" وردت الأخيرة باتهام جنود أمريكان زاروا مدينة ووهان في ديسمبر من العام المنصرم بنقل الفيروس إليها. ولا زال الطرفان يتراشقان الاتهامات بالرغم من حديث الرئيس الأمريكي دونالد ترمب ونظيره الصيني شي جين بينغ في محادثة هاتفية في 27 مارس 2020 واتفاقهما على ضرورة تبادل المعلومات والعمل سويا بجدية للقضاء على هذه الجائحة.
اليوم ونحن في أواسط شهر ابريل من العام 2020 تواجه أمريكا فيروس كورونا بضراوة وتحشد كافة إمكانيات القطاع الخاص والعام والقوات العسكرية لمواجهة هذه الجائحة، كما تضخ مليارات الدولارات بهدف ضمان عدم تعرض اقتصادها للركود المؤكد بسبب ما ترتب على انتشار الفيروس من تبعات. فقد وصلت إلى نيويورك في 30 مارس 2020 المستشفى العسكري "كومفورت" ليساعد المدينة بعد استغاثة عمدتها من نقص كبير في أسرة المستشفيات وإمكانيات مساعدة المصابين. فهل من الممكن تخيل أن تقف القوى العظمى في العالم عاجزة عن توفير الموارد الصحية الكافية لمساعدة مواطنيها؟ في الوقت ذاته تتوارد الأنباء من بدء تعاف بطئ في الصين لم تسجل فيه إصابات جديدة جعلها تعاود فتح مدينة ووهان واستئناف الحياة فيها تدريجيا. في حين من السابق لأوانه حصر التأثيرات المتصلة بانتشار الفيروس فيها من النواحي الاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
كما أصيب الاتحاد الأوروبي بمقتل من هذا الفيروس الشرس الذي استفحل في ايطاليا بدءا وجعلها من أولى بؤر الانتشار بعد الصين ولم يكن الوقت كبيرا قبل أن تنزلق كل من إسبانيا وبريطانيا وألمانيا وسويسرا وفرنسا والقائمة طويلة من بلدان أوروبا في مأزق مواجهة كورونا وتبعاتها المعقدة. ليطفو إلى السطح سؤال عن عجز الإمكانيات الصحية في دول غنية كبريطانيا وفرنسا مثلا وعدم قدرتها على التعامل مع هذه الجائحة لنقص توافر الموارد الصحية اللازمة. كما وضعت كيفية التعامل مع هذه الأزمة في السياق الأوروبي مسألة الاتحاد الأوروبي مرة أخرى أمام اختبار صعب، حيث اتهمت ايطاليا الاتحاد الأوروبي بالتخلي عنها في مواجهة هذه الجائحة حين رفضت كل من ألمانيا وفرنسا اقتراض أموال لمساعدة الدول المصابة باسم الاتحاد الأوروبي.
أما في الشرق الأوسط فقد وصلت معدلات الإصابة والوفيات في إيران إلى نسب عالية جدا تضاربت ما بين روايات مختلفة سواء الصادر منها عن الجهات الرسمية التي حاولت مراراً التخفيف من حدة الجائحة على إيران واتخاذها كوسيلة لاستعراض القدرات الإيرانية على الصمود في وجه العقوبات الأمريكية، حيث رفضت الأولى مراراً مساعدات أمريكية للتغلب على جائحة كورونا وعرضت بالمقابل مساعدة أمريكا في هذا السياق. ولعل من أكثر ما ساهم في تفشي الفيروس بشكل شرس في إيران هو عدم الحد من التجمعات في الأماكن الدينية وزيارة الأضرحة التي كان التجمع فيها كبيرا في ذروة تفشي الفيروس. وكغيرها من دول العالم لم تكن البلدان العربية بمنأى عن هذه الجائحة فقد وصلت كورونا إلى جميع الدول العربية بلا استثناء مما اضطرها لإتباع خطوات جادة في مواجهة هذا الوباء كانت لها ولا تزال تبعات اقتصادية واجتماعية يصعب حصرها في الوقت الراهن.
كما لا يمكن التكهن بحجم المأساة التي ستلحق بالدول التي تتعرض لتحديات وصراعات تجعل من مواجهة كورونا سيناريو مستحيل في ظل نزاعات معقدة لا يزيد كورونا منها إلا ويلات على شعوب هذه الدول. كما تعد مخيمات اللجوء السورية تحديدا احد اخطر أماكن انتشار جائحة كورونا والذي من شأنه أن يجر كارثة صحية على أولئك اللاجئين الذي يعانون تعقيدات اللجوء بكل تفاصيلها.
اليوم، يعيش معظم سكان العالم في حجر صحي ذاتي تم استخدامه كأنجع وسيلة في الحد من انتشار هذا الفيروس المعروف بسرعة انتشاره. بعض شعوب الدول المختلفة لم يتبنوا أساليب الحجر الطوعي بشكل كبير على محمل من الجدية مما جعل الجائحة كارثية كإيطاليا على سبيل المثال. بينما دول أخرى قدرت أن إمكانياتها محدودة ومكافحة هذا الفيروس ستكون كارثية قد لا تقوى عليها فاتبعت أساليب أكثر حزما منها فرض حظر التجوال التام منذ بدايات الأزمة ونزول القوات العسكرية للشوارع ولعل المملكة الأردنية الهاشمية كانت من أولى الدول التي طبقت حظر التجوال التام مدعوما بنزول الجيش للشوارع، تبعها بعد ذلك عدد كبير من الدول العربية والغربية بتجريم خرق الحظر الصحي بتفاوت كل حسب وضع انتشار الوباء فيها.
وفي محاولة لاستدراك التبعات الكارثيه اقتصاديا على العالم قامت دول العشرين بعقد أول قمة افتراضية تحت قيادة المملكة العربية السعودية بحثت من خلالها ما ستقوم به الاقتصاديات الأغنى والأقوى في العالم من خطوات بهدف القضاء على هذه الجائحة ومساعدة العالم للتعافي اقتصاديا من تبعاتها. لكن ما تم نقاشه والاتفاق عليه لا زال يخضع لحرب شرسة يتصدرها كوفيد 19 بلا هوادة قد تجعل من تعافي العالم اقتصادياً تحدياً من السابق لأوانه التعرف على معالمه ووقت تطبيقه. لكن من الممكن القول إن كل الدول بلا استثناء ستخرج مصابة بتوعك اقتصادي يمكن تسميته "ما بعد كورونا".
ومن المهم الانتباه إلى أن جائحة كورونا أضحت أمرا واقعا وكارثة حصدت حسب آخر إحصائيات منظمة الصحة العالمية المعلن عنها بتاريخ 30 مارس 2020 هو 33.257 حالة وفاة بينما بلغ عدد الإصابات 697.244 في أكثر من مائتي دولة. وهذا يجعل العالم يقف ويتساءل ما الذي فاقم من آثار هذه الكارثة الصحية، وقد كان أهم العوامل المشتركة التي أعاقت مواجهة هذا المرض بشكل أكثر فعالية هي نقص الكوادر المدربة والمعدات الطبية اللازمة في حالات الطوارئ المشابهة.
ويحضر للأذهان مدى اهتمام الدول المتقدمة والنامية على حد سواء بالقطاع الصحي والبحث العلمي الذي من شأن دعمه وتفعيله بالشكل المناسب أن يقلل من التبعات الكارثيه لظروف عالمية مشابهة لم يكن العالم على استعداد للتصدي لها. ففي حين تنفق الدول العظمى مبالغ طائلة على برامج التسلح تصل حسب إحصائيات معهد ستوكهولم لدراسات السلام الدولي في إحصائياته الخاصة بإنفاق التسلح العالمي نشرت بتاريخ 9 ديسمبر 2019 تشير إلى أن مبيعات وخدمات التسلح في اكبر مئة شركة منتجة للسلاح مستثنى منها إنتاج الشركات الصينية بلغ 420 مليار دولار أمريكي في العام 2018 مسجلة ارتفاع بنسبة 4.6 مقارنة بالعام 2017. تستحوذ فيها كل من الولايات المتحدة الأمريكية و الصين تستحوذان على صناعة الحصص الأكبر. بينما يعاني القطاع الصحي عالميا من نقص في الموارد المستثمرة في تحسينه وتعزيز نواحي البحث العلمي الذي يصب في مصلحة الحفاظ على البشرية في وجه الكوارث الصحية المتكررة. فوفقا للإحصائيات المفصلة الصادرة عن منظمة الصحة العالمية فيما يتعلق بالإنفاق الصحي في العالم يمكن رسم مقارنة واضحة بأن القطاع الصحي في الدول المتقدمة والنامية أيضا، لا ينال إلا الفتات من نصيب الأسد الموجه لحقول التسلح والحروب.
ختاما، لا بد من التأكيد على أن جائحة كورونا ليست الأولى وحتما ليست الأخيرة في صراح الإنسان مع الأوبئة، ولعلنا نذكر بشكل جيد كل من أنفلونزا الخنازير، أنفلونزا الطيور، السارس، وايبولا بالإضافة إلى الأنفلونزا الموسمية التي تحصد ألاف الأرواح البشرية حول العالم كل عام، غيرها الكثير من الأوبئة التي أنهكت البشرية واستنزفت مواردها البشرية. وهنا لا بد من أن يعيد العالم، ودوله العظمى تحديدا، ترتيب أولويات إنفاقها والمجالات التي لا بد من الاستثمار بها وتدعيمها لكي لا يقف العالم مجددا عاجزا أمام فيروس مجهري لا يرى بالعين المجردة.