خَلُص تقرير "مدار" الاستراتيجي للعام 2020، الذي يصدره المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار" إلى أن نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة (جرت يوم 2 آذار 2020) عمقت الأزمة السياسية المستمرة منذ نحو عام، وذلك بعد فشل رهان رئيس الحكومة وزعيم الليكود واليمين بنيامين نتنياهو على كتلة يمينية لا تحتاج إلى حزب أفيغدور ليبرمان.
لكن التقرير أكد في الوقت ذاته، أن دخول فاعل جديد على الخط ممثلاً بفيروس كورونا خلط الأوراق كلّها، شكلّ ذريعة لرئيس تحالف "أزرق أبيض" بيني غانتس، لتبرير الزحف إلى "حكومة وحدة" برئاسة بنيامين نتنياهو، بتسويغ مفاده أن الأوضاع تستلزم إقامة حكومة طوارئ، حيث أدت هذه الخطوة الصادمة لمعسكر المعارضة في إسرائيل إلى انقسام "أزرق أبيض" إلى شطرين، وإلى اتهام المعارضين لهذه الخطوة غانتس بأنه يساهم عملياً في استمرار حُكم نتنياهو، مع ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر تتعلق بالأوضاع الداخلية، وسياسة إسرائيل الخارجية ولا سيما حيال القضية الفلسطينية.
واعتبر التقرير الصادر اليوم الأحد، بنسخة الكترونية على موقع "مدار" الالكتروني، بعد أن تم تأجيل المؤتمر السنوي لهذا العام بسبب وباء "كورونا": يعتبر تشكيل هذه الحكومة بمثابة انتصار لنتنياهو الذي كان من المقرر أن تبدأ جلسات محاكمته في 17 آذار 2020، ولكنها تأجلت حالياً إلى أيار.
وركز تقرير "مدار" على قراءة المشهد الإسرائيلي في العام 2019 داخلياً، حيث الأزمةُ السياسية الانتخابية، وعدم قدرة أيٍ من المتنافسين على تشكيل ائتلاف، بالتوازي وبالتداخل مع تقديم المستشار القانوني للحكومة أفيحاي مندلبليت، لائحةَ اتهام ضد نتنياهو في ثلاثة ملفات فساد، واتهامه بالرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة.
وحلل التقرير عبر فصوله كيف ألقت الأزمةُ الداخلية بظلالها على القضية الفلسطينية ووجهتها، وتجاوزت آثارُها وإسقاطاتُها الشأنَ السياسي الداخلي والصراعات على رئاسة الحكومة، وتحولت إلى أحد العوامل المؤثرة دولياً وإقليمياً، ما أدى، في ظل التحالف بين ترامب ونتنياهو، إلى الدفع باتجاه إعلان ترامب عدة قرارات استراتيجية سياسية منحازة، كالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان عشيةَ الانتخابات في أيلول 2019، وذلك بعد الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إليها، ثم إعلان "صفقة القرن" عشيةَ الانتخابات في آذار 2020، والتي تتبنى بلغتها ومنطلقاتها وأهدافها الرؤيةَ الإسرائيلية اليمينية للصراع والتسوية، وتسعى إلى شرعنة الاستعمار الاستيطاني، وتحويل حالة الأبرتهايد الفعلي إلى أبارتهايد قانوني تحت مسمّى دولة. وقد سبقها أيضاً إعلانُ وزارة الخارجية الأميركية أنها لم تعد تعتبر المستوطناتِ في الأراضي المحتلة منذ 1967 بمثابة مخالفةٍ للقانون الدولي.
الخطاب تجاه "المشتركة"
ولفت التقرير، في ضوء تحقيق القائمة المشتركة 15 مقعداً في الانتخابات الأخيرة، إلى ما "يشكل تغيراً في الخطاب" تجاه "المشتركة" ودعوة أعضائها من قبل رئيس "أزرق أبيض" بيني غانتس للتشاور عشيةَ التوصية على المرشح المكلف بتشكيل الحكومة، والحديث عن التعاون معهم لدعم حكومة أقلية، ثم المطالبة بأن يكون لهم دورٌ في حكومة طوارئ، أو دورٌ في رئاسة اللجان، واعتبر أنه بمثابة تغيير مهم في التوجه لـ "المشتركة" واعتراف بهم كقوة سياسية شرعية، وجزء من المواطنين الشرعيين؛ ولا سيما في ظل الحملة اليمينية المسعورة على هذه الشرعية التي يؤججها نتنياهو نفسُه منذ عدة أعوام، وما تستند إليه من بنية تحتية قائمة في وعي الجمهور العريض في إسرائيل. ومع أن هذه الشرعية تستند إلى قوة "المشتركة" الانتخابية من جهة، فإنها من جهة أخرى تستند أيضاً إلى حاجة "أزرق أبيض" لها لإطاحة نتنياهو، وهو ما حدا بهذا الأخير ومِن ورائه اليمين إلى الاستشراس في التحريض على المشتركة، وعلى "أزرق أبيض".
يذكر أن معسكر المعارضة الإسرائيلية انتظم على هدف أساسي هو إسقاط نتنياهو، من دون أن تربط أعضاءه بالضرورة رؤيةٌ سياسية أو أيديولوجيا مشتركة، وقد تم تشكيلُ قائمة "أزرق أبيض" التي قادت مساعي إسقاط نتنياهو عشية الانتخابات التي عُقدت في نيسان 2019 من أجل تحقيق هذا الهدف بالتحديد.
ويضم معسكر المعارضة، بالإضافة إلى القائمة المشتركة وتحالف العمل- ميرتس، أيضاً حزب "يسرائيل بيتينو (إسرائيل بيتنا)" بقيادة ليبرمان اليميني الذي انتقل من لعب دور بيضة القبان إلى لاعبٍ سياسي أساسي لإسقاط نتنياهو، على الرغم من وجود تقاطع أيديولوجي بينهما.
وقال التقرير إنه ضمن الصراع المحتدم وغير المسبوق في المشهد السياسي، وقبل الإعلان عن الذهاب نحو تشكيل حكومة طوارئ بسبب "الكورونا"، تعمقت حالة الاستقطاب الداخلي والتحريض المنفلت والموجه بشكل خاص نحو القائمة المشتركة، وعبرها تجاه "أزرق أبيض" وغيرهما، باعتبار أن التعاون مع "المشتركة" هو تعاون مع داعمي الإرهاب وأعداء الدولة، إذ تفوق حالة الاستقطاب الداخلي بحسب المراقبين تلك التي سبقت اغتيال إسحاق رابين، وهو ما استلزم نقلَ الحراسة على غانتس من حرس الكنيست إلى جهاز الشاباك.
مصير صفقة القرن
ونوه التقرير الى إمكانية دفع نتنياهو المتهم بقضايا الفساد والرشوة في ثلاثة ملفات وفي حال الخروج من أزمة (الكورنا) باتجاه اتخاذ خطوات سياسية بعيدة المدى، وبسرعة، وأهمها تنفيذُ ما يراه مناسباً من بنود صفقة القرن. ويرتبط ذلك في الأساس بعاملين؛ الأول رغبةُ نتنياهو في الدخول إلى التاريخ الصهيوني، ليس من باب الفساد، بل من باب كونه قائداً تاريخياً إلى جانب هرتسل وبن غوريون، والثاني العمل على تحويل الانشغال من محاكمته إلى الخطوات السياسية التي يقوم بها، والتي تندرج تحت بند تنفيذ صفقة القرن التي تعني فعلياً تنفيذَ رؤيته السياسية بتحويل الوضع القائم إلى الحل النهائي، ما يعني فعلياً نقل الوضع من حالة أبارتهايد بالقوة إلى حالة أبارتهايد بالقانون، علما أن انضمام حزب "مناعة لإسرائيل (حوسين ليسرائيل) برئاسة جانتس لحكومة برئاسة نتنياهو يمكن أن تؤدي الى إبطاء تنفيذ مثل هذه الخطوات، دون ان تلغي فرصة تنفيذها وفقا للشروط والسياق العام .
وركز الفصل المعنون "مشهد إسرائيل والمسألة الفلسطينية" على صفقة القرن وانسجامها مع مساعي اليمين الصهيوني لحسم (تصفية) المسألة الفلسطينية، سياسياً وأخلاقياً وعلى الأرض، وأشار الى إنها في جانب من مركباتها تذهب أبعد من الإجماع الإسرائيلي، وتطرح محاورَ لم تكن ذات أولوية في السجال الإسرائيلي حول الحل النهائي.
أهداف استراتيجية
واعتبر فصلُ مشهد العلاقات الخارجية الإسرائيلية أن إسرائيل لا تزال تحقق أهدافاً استراتيجية متعددة خارجياً، كتوثيق الدعم السياسي: صفقة القرن نموذجاً، وارتفاع عدد الدول التي تتبنى التعريف الإسرائيلي لمعاداة السامية، والاعتراف الأميركي بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، وتوثيق التعاون الروسي- الإسرائيلي، وتوثيق التعاون الاقتصادي في الساحة الأفريقية وغيرها، وذلك على الرغم من وجود بعض التحديّات التي تواجه هذا المشهد على الساحة الأوروبية، وعلى مستوى العلاقات الشائكة مع اليمين الشعبوي وانعكاساته على العلاقة مع اليهود في أميركا والعالم.
وأوضح التقرير أنه في ظل التماهي بين نتنياهو وترامب، وتداخل صفقة القرن في السياسة الإسرائيلية الداخلية، تعمقت عدةُ سيرورات، أهمها تعميقُ الشرخ بين إسرائيل برئاسة نتنياهو وبين الحزب الديمقراطي الأميركي، وتعميق الفجوة مع الجالية اليهودية في أميركا من جهة أخرى، والتي تصوت بأغلبيتها للحزب الديمقراطي وتتبنى مواقفَ ديمقراطيةً ليبرالية ترفض تحالفَ حكومة نتنياهو مع جماعات صهيونية مسيحية تتبنى رؤى غيبيةً وعنصرية تجاه اليهود، وزعماء اليمين الشعبوي والمتطرف في العالم كهنغاريا والبرازيل والهند.
أربع قضايا اجتماعية
وتابع فصل المشهد الاجتماعي الإسرائيلي في التقرير التطوّرات الأساسيّة في أربع قضايا أساسيّة كان لها إسهامٌ كبير في تشكيل المشهد الاجتماعيّ في إسرائيل في سنة 2019، تضم الفساد السلطويّ، والفوارق الاقتصادية -الاجتماعية في مجالات الحياة المختلفة، والتطورات في أوضاع مجتمعات اليهود الحريديين، واحتجاجات الأثيوبيين وصورة أوضاعهم العامة، وكل هذا على ضوء اتباع الحكومات المتتالية منذ عقدين على أقل تقدير اقتصاداً نيوليبرالياً ساهم في تعميق الفجوات الاجتماعية، وفي خدمة مصالح قطاع الأعمال والمصالح الكبرى للمستثمرين الكبار، حيث تم منحُهم جملةً من التسهيلات الضريبية، وتسهيل شروط القروض البنكية والدعم الحكومي، فيما تم في المقابل تقليص الإنفاق العام على الخدمات الأساسية لمجمل السكان وبضمنهم الطبقات الفقيرة.
وكما في كل عام، في التقرير فصلان يتطرقان إلى الأوضاع الاقتصادية وإلى القضايا الأمنية- العسكرية، وكذلك فصلٌ خاص بالفلسطينيين في إسرائيل يغطي أهم الأحداث والتطورات السياسيّة والاجتماعية في أوساطهم، ويقسم إلى قسمين؛ القسم الأول يتناول المشهدَ السياسي ويتوقف عند "صفقة القرن" وتداعياتها، وخصوصاً أنها تضمنت فقرةً تدعو إلى درس ضم منطقة المثلث داخل مناطق 1948 إلى الدولة الفلسطينية العتيدة، بالإضافة إلى الحملات الانتخابية الثلاث، والثاني يصف المشهد الاجتماعي، ويتوقف بتوسع عند ظاهرة انتشار الجريمة والسلاح في المجتمع الفلسطيني في الداخل.
يذكر أن تقرير "مدار" تقريرٌ سنوي يرصد ويحلل أهم المستجدات والتطورات التي شهدتها الساحة الإسرائيلية خلال العام الماضي، ويحاول استشرافَ وجهة التطورات في الفترة المقبلة، خصوصاً من جهة تأثيرها على القضية الفلسطينية وعلى الشعب الفلسطيني.
ويقدِّم للتقرير ملخصٌ تنفيذي يُجمل أهم المتغيرات الاستراتيجية التي تؤثر في إسرائيل وفي وجهتيها الداخلية والإقليمية، ويأمل من خلال ذلك الإضاءةَ على المشهد الإسرائيلي بعوامله الأساسية المؤثرة.
شارك في وضع التقرير الذي تحرره هنيدة غانم كلٌ من: مهند مصطفى، أنطوان شلحت، خالد عنبتاوي، فادي نحاس، حسام جريس، نبيل الصالح، وهمَت الزعبي.