ظهرت معالم التحرك الصهيوني، عندما بلور الصحفي النمساوي تيودور هرتزل عام 1886 فكرة خلق دولة يهودية في كتابه (الدولة اليهودية) وذلك كحل من وجهة نظره لمشكلة يهود أوروبا الذي يعانون من الاضطهاد والتمييز العنصري في ذلك الوقت. ومنذ هذه اللحظة ارتبطت مسيرة الحركة الصهيونية بشكل عضوي بمصير فلسطين وشعبها. وعمل دعاة المشروع الصهيوني والمروجين له على تسويق فكرة أن فلسطين هي أرض بلا شعب لشعب بلا أرض؛ أي يهود أوروبا. ومن هنا، فإنه يتحتم على يهود أوروبا الانتقال إلى أرض الميعاد دون أي إشكالية تذكر، لأن ارض الميعاد -وفقاً لما يروجون- غير آهلة بالسكان الأصليين.
لكن هذا الواقع كان مضللاً، الهدف منه تحفيز اليهود في شتات العالم للذهاب إلى فلسطين التي ضمت بين جنباتها عدداً كبيراً من الفلسطينيين اليهود والمسيحيين والمسلمين يعيشون في تناغم تام في فلسطين التاريخية. وتشير إحصائيات الأمم المتحدة لعام 1950 بأن نسبة 66% من الفلسطينيين الذين كانوا يقيمون في فلسطين التاريخية عام 1948 تم تهجيرهم في ذات العام ، حيث طرد ونزح من الأراضي التي سيطر عليها الاحتلال الإسرائيلي حوالي 957 ألف عربي فلسطيني.
ومنذ ذلك الوقت، تتبنى إسرائيل سياسة غير معلنة تستهدف تفريغأكبر عدد ممكن من سكان فلسطين الأصليين، سواء في الداخل المحتل، أو في الضفة الغربية، وبالأخص في القدس الشرقية. إلا أن بقاء الفلسطينيينعلى اختلاف أعدادهم وتزايدها في مراحل الصراع المختلفة شكل حجر عثرة في طريق تأمين مطالب إسرائيل بتحقيق يهودية الدولة. كما كان لممارسات إسرائيل المجحفة بحق الفلسطينيين صدى واسع في المحافل الدولية وجعل أهمية إيجاد حل لهذا الصراع من أولويات المجتمع الدولي.
وجعل تصدر الولايات المتحدة الأمريكية للمشهد الدولي كقوة عظمى منذ قيام دولة إسرائيل إلى يومنا هذا لكل المقترحات التي تصدر عن البيت الأبيض أهمية خاصة، رغم التحيز الذي اكتنف المقترحات الأمريكية لم تلقترحيباً كبيراً في مراحل الصراع المختلفة من جانب الفلسطينيين، مع اضطرارهم للقبول بها لاحقاً على ضوء الخلل القائم في موازين القوة بينها وبين إسرائيل.
ومن الجدير بالذكر أن اهتمام الولايات المتحدة بالمشروع الصهيونيليس بالجديد، حيث يرجع تاريخ هذا الدعم إلى فترة الإعداد البريطاني لما أصبح يطلق عليه "وعد بلفور" الذي اعترفت فيه بريطانيا بأحقية اليهود في وطن قومي في فلسطين. وأصبح من الحقائق التاريخية المسلم بها أن "وعد بلفور" حظي بدعم ومباركة رسمية أمريكية قبل إعلانه، وصولا إلى اعتماده من قبل عصبة الأمم في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
واليوم وبعد مرور أكثر من قرن على "وعد بلفور" وما ترتب عليه، تعود الولايات المتحدة من خلال ما اصطلح عليه بـ "صفقة القرن"، هذه الصفقةالتي أعلن عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في مؤتمر صحفي جمعه ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض، لتكون حلقة جديدة ، وبالتأكيد لن تكون الأخيرة، في سلسلة لا منتهية من مقترحات الحلول لهذا الصراع، والتي أصبح من الواضح أن هدفها هو فرض حل من جانب واحد على الطرف الفلسطيني باعتباره الطرف الأكثر ضعفاً في معادلة الصراع. ويتعين التنويه بأن الدعم الأمريكي للقضية الصهيونية، ثم لدولة إسرائيل منذ نشأتها، ليس له نظير في التاريخ السياسي الأمريكي وفقاً لما يقوله جون ميرشايمر وستيفن والت في كتابهما المثير للجدل "اللوبي الإسرائيلي".
ولعل الناظر في تاريخ مشاريع السلام المقترحة يمكنه الرجوع بالزمن إلى أول المشاريع التي طرحها البريطانيون ووافق عليها العرب والفلسطينيين ورفضها إبان ذلك الزعماء الصهيونيون والتي قدمها السير آرثر جرنفيل واكهوب المندوب السامي البريطاني في فلسطين مطلع الثلاثينيات من هذا القرن.
واليوم وبعد أكثر من سبعين عاماً على إنشاء دولة إسرائيل، تقف المنطقة على أعتاب مرحلة جديدة، في أعقاب الطرح الأمريكي الأخير، الذي يتميز بخصائص عن غيره من المقترحات الأمريكية السابقة لحل الصراع، لعل أهمها ما يلي:
1- إنه تمت صياغته والإعلان عنه بغياب الطرف الرئيسي في الصراع، وهم الفلسطينيون، في صورة أقرب إلى الصفقة المجحفة بحق الفلسطينيين منها لمقترح اتفاق سلام أو حتى إطار عمل قد يقود لتفاهمات بين طرفي الصراع الرئيسيين، كما كان الحال في جولات مفاوضات سابقة أدت إلى اتفاقيات طبقت أم لم تطبق، لكنها شملت طرفي الصراع.
2- إنه يبتعد كل البعد عن الشرعية الدولية وعلى رأسها قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة فيما يختص بالقضية الفلسطينية، وخاصة قرار مجلس الأمن رقم 2334 (2016)، والذي مثل متغيراً بالغ الأهمية في سلسلة القرارات الأممية الصادرة بشأن القضية الفلسطينية والذي قامت الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة باراك أوباما بإعداده ومن ثم عدم عرقلة اعتماده.
3- إنه يضرب بعرض الحائط مبادرة السلام العربية الصادرة عن القمة العربية في بيروت عام 2002، ويقوض من مرجعيتها رغم أنها أتاحت لإسرائيل فرصة لا تعوض لإنهاء الصراع وتطبيع علاقاتها مع كافة الدول العربية. واتبع ذلك بخارطة الطريق المقترحة من الرباعية (الامم المتحدة، الولايات المتحدة، روسيا، الاتحاد الاوروبي) والتي اقترحت جدولا زمنيا مفصلا للوصول الى اتفاق نهائي مع حلول العام 2005. لكن هذا لم يحدث. واخر محاولة تم طرحها من قبل ادرة اوباما في 2009 ومن ثم في 2013 تضمنت تجميد الاستيطان والعمل على انهاء قضايا الحل النهائي وهذا ما لم يحدث الى يومنا هذا. وصفقة القرن تلغي كل ما تم ذكره وتأسس لفكر جديد في ما يتعلق بحل الصراع كما يرى الإسرائيليون ويدعمهم بذلك الأمريكان.
4- إنها أظهرت بما لا يدع مجال للشك، وربما للمرة الأولى بهذه الصورة الفجة، أن إسرائيل تلعب دورا محوريا وبشكل مباشر في توجيه وصياغة السياسة الخارجية الأمريكية نحو المنطقة.
5- إنه يمكن القول بأن "صفقة القرن" وجهت الضربة القاضية التي أودت بكل ما تم الاتفاق عليه في محطات هامة تخص هذا الصراع، وفي القلب منها اتفاقيات أوسلو. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن خطورة صفقة القرن تكمن في طرحها حلولاً لا تستند للقانون الدولي في قضايا مفصلية تم إرجاءها لمرحلة الحل النهائي عندما توصل طرفي الصراع برعاية أمريكية وموافقة دولية لاتفاقية أوسلو أو ما عرف بإعلان المبادئ الموقعة في عام 1993 وتلك كانت المرة الأولى التي ينخرط بها الطرفان في مفاوضات مباشرة. وهذه المفاوضات أنشأت لحكم ذاتي فلسطيني ممثل بالسلطة الوطنية الفلسطينية، لكنها أرجأت قضايا مفصلية كاللاجئين، والقدس، والحدود لمراحل تفاوضية لاحقة لم تأت إلى يومنا هذا، وبذلك قطعت عليها صفقة القرن بشكلها الحالي كل الطرق الممكنة للتفاوض بهدف تحقيق السلام العادل والشامل.
منذ أكثر من السبعين عاما هي عمر الصراع العربي الإسرائيلي ومقترحات الحل تتوالى على الفلسطينيين بأشكال مختلفة ومن مصادر ورعاة متعددين، كل طرح الحل عبر مفاهيمه وغاياته وآلياته. وفي مراحل متعددة من مراحل هذا الصراع المعقد، اتهم الفلسطينيون بتضييع الفرص، وقام الإسرائيليون في أخرى بالتنصل مما تم الاتفاق عليه. ومنذ عام 1947، اختلفت الحلول وتعددت، ومثلت ديمغرافيا المكان وبناء المستوطنات وعزل الضفة الغربية عن قطاع غزة وفرض الأمر الواقع في القدس الشرقية المفردات الرئيسية للصراع والتي يجري توظيفها لإنهاء الصراع لصالح إسرائيل.
وتمثل رؤية ترمب شهادة وفاة لاتفاقية أوسلو، وهو ما لمح به الرئيس الفلسطيني محمود عباس في اجتماعه بوزراء الخارجية العرب في القاهرة في الأول من فبراير 2020. ويقف الفلسطينيون مرة أخرى ما بين مطرقة من جانب وسندان الأمريكيين من جانب آخر، في مشهد شديد الضبابية في الشرق الأوسط يحمل في طياته تبعات لا يمكن في المرحلة الحالية التنبؤ بعواقبها، مما يجعل تركيز الجهود لحل هذه القضية وإنصاف شعبها من الأولويات في هذه المرحلة. وقد حصل الفلسطينيون على إجماع عربي في جامعة الدول العربية يمكنهم من التحرك بخطى ثابتة من شأنها رفض صفقة القرن بشكلها الحالي، والدعوة للعودة للمبادرة العربية 2002 والشرعية الدولية وقراراتها ذات الصلة كقاعدة للتفاوض وليس قبول فرض الأمر الواقع بقوة الاحتلال. وهنا لا بد من اختم بالقول "إن المسألة الفلسطينية هي مفتاح السلام الدائم في الشرق الأوسط. هذا ليس بشعار، وإنما حقيقة تاريخية.