ليس سهلاً أن تكتب عن شخص له مكانة إعتبارية دون أن تقترب منه وتراقبه عن كثب، وتشهد بأمِّ عينيك كيف يتعامل مع رجاله من دائرته المحيطةأو مع ضيوفه الآخرين، فأحياناً تحتاج أن تقرأ بصمت وذكاء دون أن تُعلِّق، فالانطباعات التي تتشكل تمنحك الثقة عندما تكتب خارج ما درج عليه العامة من تقيميات أو تعودوا عليه من القيل والقال.
لا شك أن دحلان؛ النائب والسياسي المشاغب والفتحاوي المتنمر، سيظل لغزاً للكثيرين من نخب السياسة والأدب، فالرجل بسبعة أرواح، وقد تمكن من الإفلات بإعجوبة وببركات جده "عبد النبي"؛ أحد الرجال الصالحين من أهل الراية وبركات السماء، والذي يبدو أن دحلان قد ورث منه بعضاًمن جينات الخير كما يقول بعض أقاربه، وملمح "الطِيبة" هذا يلحظه كل من تعامل معه أو شاركه الهمّ العام ومراجعة أحوال الناس.
لا أزعم بعد أني أعرف الرجل بكل أسراره وألغازه، ولكني على ثقة أنني أتعامل مع شخص يمكنني الوثوق به، ومحاورته بروح الصديق والجار وابن المخيم، وهو يسعى بجهد متميز من أجل جلب الخير لأبناء وطنه.. تجالسه بعد غياب فيسألك عن أحوال الناس وأوجاعهم، ثم يناقشك كيف نعمل لمساعدتهم وتخفيف آلامهم، ثم يأخذك باتجاه المستقبل؛ الرؤية والخلاص!! الرجل لا يبيعك وهماً ولا أحلاماً، بل يصارحك بإمكانيات الواقع وفرص النجاح: ماذا بمقدورنا أن نعمل لنصنع إنجازاً ونحقق كسباً لشعبنا، بعيداً عن لغة التمني أو التحلي.
وعليه؛ فكلما اقتربت في حوارك معه احترمت واقعيته وشعرت بصدقه، فهو يتصرف بسلوكيات رجل الدولة، حيث يُقدِّر لرجله قبل الخطو موضعها كي لا ينزلق، فالسياسة أشبه بدرب تكثر فيه المتاهات وزلَّات الأقدام، ولا يعرف دهاليزها إلا من خبرها وتحوط حذراً من مفاجآتها. لقد تمكن دحلان من النجاة وتشكيل حالة سياسية جديده، رغم الاستهداف الذي تعرض له من قِبل الرئيس والملأ من حوله، وفي فترة قصيرة من عمر الزمن والقضية،تمكن دحلان من إعادة بناء هيكلية تنظيمية متماسكة من الكفاءات الفلسطينية وأصحاب الولاءات، وهي تنمو وتترعرع أفقياَ ورأسياً بشكل يلفت النظر، حيث يتعاظم الكسب في مجالي الشباب والمرأة.
دحلان اليوم ينهض من تحت عفرة الرماد التي حاول الرئيس والملأ من حوله شيطنتها وإخراجها من ساحة العمل السياسي، وتجريدها بعد تشريدها من صفحات تاريخها النضالي حتى لا يبقى له أثرٌ، ولا يتجرأ بعده أحدٌ على هيبة من استخف قومه فأطاعوه!!
دحلان رجل الدولة وجد من يحتضنه ويُقدره ويفتح له الأبواب مشرعة ليستعيد مكانته القيادية وينشغل بأوجاع الناس الذين فقد الكثيرين منهم بوصلتهم النضالية وانشغلوا في البحث عن خَشاش الأرض لحماية ما تبقى لهم من كرامة وعِرض.
لا أعرف ما هي أجندات دحلان الغامضة، ولكن ما عندي من يقين أن الرجل يفكر ويحاور ويستمع ويشاركك الرأي ويناقش معك ممكنات الحلول، وهذا في السياق الوطني ما يجعلك تشعر بالارتياح ومواصلة العمل والتواصل معه.. إن هناك ثلاث قضايا تجد نفسك في إطار جلسة للعصف الذهني معه تخوض في نقاشاتها، وهي: أحوال الناس المأساوية والامكانيات المتاحة للتخفيف من لأوائها، مثل مشكلة الكهرباء، وهناك أفكارٌ للتعامل الإيجابي معها، بل ربما أن هناك أموالاً مرصودة لها، ولكن بسبب الانقسام وترهل البيت الفلسطيني،فلا يمتلك أحد القدرة على تنفيذها. والثانية؛ الفقر والبطالة وتداعياتها الاجتماعية، وهذه مأساة لا تكفي لحلها الإعانات والمساعدات المتقطعة، بل إنها تتطلب خلق فرص عمل لتشغيل الخريجين والاستثمار في هذه الثروة البشرية، حيث إن الكفاءات الشبابية الفلسطينية متوفرة، وسوق العمل في الخارج بالإمكان الوصول إليه، وهذا يحتاج إلى بعض الجهد لتأهيلا لآلاف من الخريجيين وتشغيلهم للعمل عن بُعد.. إن هذا التوجه يعتبراليوم أحد المشاريع الطموحة لجمعية أساتذة الجامعات، وقد لقى استحساناً لدى الأخ محمد دحلان، وقد تظهر ثمرته قريباً. والثالثة؛ وهي الرؤية الاستراتيجية لمستقبل مشروعنا الوطني، والتي تقوم على فكرة "الدولة الواحدة" بعدما أطاح ترامب بفكرة "حلّ الدولتين". لا شكَّ أن فكرة "الدولة الواحدة" تحتاج اليوم تحركاً واسعاً لاعتمادها كخيار لمواجهة "صفقة القرن" ومخططات "الترانسفير"،التي تدور رحى أفكارها في رؤوس اليمين الإسرائيلي المتطرف، عبر سياسات ضم الأغوار والمستوطنات، والتمكين لمشروع "الدولة اليهودية".
من الجدير ذكره، إن دحلان طوى خلال مسيرته الكثير من صفحات الماضي، ونجح في تطوير قدراته الإدارية والقيادية، واستوعب لغة السياسة وأبدع فيها، وهو اليوم يتحرك في أكثر من فضاء لجلب الدعم المالي لأهلنا في قطاع غزة وفي القدس وبعض ساحات الشتات الفلسطيني.
في الحقيقة، إن هناك الكثير من المواقف الطيبة التي تُحسب له اليوم في تطور العلاقة الإيجابية بين فتح التيار وحركة حماس، كما أنه ما زال يلعب دوراً مشكوراً للحفاظ على مستوى التواصل والتنسيق بين مصر وحماس، حيث إن مصلحة الجميع تقتضي ذلك.
إن بيت القصيد في كل ما تقدم أن دحلان اليوم هو رجل دولة، ويحمل على كتفه الكثير من المهمات والهموم الوطنية، وإن ضرورؤة التعاطي الإيجابي في خطابنا يوجب علينا في حركتي فتح وحماس أن نعمل على توطين ذهنيات الجيل الشبابي على إحسان الظن ببعضنا البعض، وتعزيز فرص العمل في سياق الشراكة السياسية والتوافق الوطني، حيث إن القادم يتهددنا جميعاً، وأنَّ المرحلة تُلزمنا أن نتحرك سريعاً لقطع الطريق أمام صفقة القرن، والتي أكدت استطلاعات الرأي التي جرت مؤخراً أن شعبنا يرفضها بأغلبية ساحقة.