سبق هذه المقدمة مراسلات واتصالات كثيرة بين أمجد وبيني، كان قد قرر أن يخرج تلك اليوميات التي سجلها خلال حصار بيروت والتي كنت شاهدا عليها، في كتاب حمل عنوان "بيروت صغيرة بحجم راحة اليد"، وكان معنيا، كعادته، بأدق التفاصيل ولأنه كان يظن، دائما، أن نبرتي في الخطاب تميل إلى الهدوء والوصف فقد كلفني أن أراقب حدة اللغة في بعض مناطق الكتاب المتعلقة بآخرين كنا رفقتهم، وهو أمر، هدوء نبرتي، رافقنا في رحلتنا الطويلة دون أن نتفق حوله.
بالنسبة لي شكلت يوميات أمجد حلا مثاليا لقسوة الكتابة عن حصار بيروت، حيث بدت وكأنها شراكة في التجربة، وهي كذلك، ولكنه بدأبه ووفائه وعناده أيضا، كان الأكثر جدارة في كتابتها.
المقدمة:
قيمة هذه اليوميات تكمن في عدم ادعائها وفي احتفاظها بطاقة الوهلة الأولى، ليس هناك بحث عن بطولة ما، الأشخاص الذين يتجولون في اليوميات أبسط بكثير من حيلة البطولة وبلاغتها، وأكثر قربا من إنسانيتهم، حتى أولئك الذين سيقتلون فيما بعد في مدن بعيدة في صباحات صافية واصلوا حياتهم في اليوميات بحيوية من لا يعرف.
لم يحاول أمجد ناصر أن يعيد النظر في الحكاية، لم يضع هوامش أو تعليقات تعكس وعيا لاحقا، ببساطة قاسية احتفظ بالخوف والقلق وإشارات الندم الشخصي والحنين، ثمة نزاهة عميقة هنا منحت النص طاقة يصعب أن تجدها في نصوص مشابهة حاولت التصدي لذلك الصيف الذي يبدو بعيداً الآن.
الشاب الأردني ابن السابعة والعشرين، الشاعر المتمرد الذي وصل بيروت ذات صبيحة دون مخططات وبحقيبة كتف متقشفة، دون أن ينظر إلى الوراء حيث العائلة في المفرق تحدق مثل صورة بالأبيض والأسود في غرفة الابن البكر التي فرغت، هذا الشاب هو الذي كتب هذه اليوميات، وهو الذي حملها ثلاثين عاما في مدن لم يفكر يوما أنه سيصلها، قبل أن يفتح أوراقه ليجدها كما هي حية تتنفس.
لا يقترح أمجد ناصر، على قارئه حلا أو إجابة، إنه يجلس ببساطة ويفرد أوراقا حميمة كتبها في لحظات نادرة بينما كان الموت يطوف حوله وينظر إليه عبر الزجاج، ثمة اعتذارات هنا تتلامح في الظلال وإحساس أبيض بالخسارة، خسارة غير واضحة ولكنها موجودة في مكان ما من الحياة التي سبقت انغلاق الحصار وسبقت الغارة الأولى، هناك عناد شخصي يكمن خلف كل هذا، مزيج من الأخلاق والثقة يصل على نحو ما إلى تلك الغرفة الصغيرة في المفرق ويلمس القميص المكوي المعلق على مسمار في الجدار كامتياز حبيب للابن البكر.
في عودته للأماكن الأولى في الجزء الثالث من الكتاب، تنفتح الخسارة على نحو مؤلم وعميق، الخسارة العميقة للأمكنة التي رافقت أمجد في معظم كتاباته والتي رفدت إضافته للشعر العربي ومنحته تفرده ومكانته الخاصة.
هذه اليوميات تضع ذلك الصيف بين يدي القارئ بنزاهة شاب لا يخلو من مثالية وبراعة شاعر كبير أنضج تجربته وطورها حتى أصبح شريكا أساسيا في المشهد الشعري العربي، بالنسبة لي لقد أحببت أنني كنت هناك شاهدا على كتابة اليوميات في ذلك الصيف، وشاهدا على صدورها بعد ثلاثين سنة.
ولعلني في اعتراف متأخر أضيف إلى ذلك، أن سطوة تلك الحرب وقسوتها الاستثنائية التي تسللت إلى أرواحنا عبر الإحساس الصامت، غير المعلن، في وصول الأشياء إلى لا جدواها، لم تتمكن من الوصول إلى أمجد الذي حول كل ذلك إلى لحظة تأمل عميقة حركت الأثاث القديم ونفضت الغبار عن الحب والصداقة والأحلام التي خلنا أننا فقدناها بينما هي تنبض وتتنفس في العتمة.