الإعلام، بلا استثناء، إما تابع لمموليه، وإما حامل لأيديولوجيا يدافع عنها، والصفة الأخيرة ليست عيباً بحد ذاتها إلا بمقدار إخفائها لمعلومات عن الجمهور وإبرازها لأخرى قد تكون أقل قيمة لخدمة أجندة محددة.
ولأن الاعلام كذلك، فهو مليء بمحللين أو بمعارضين سياسيين يلقون «بثقلهم» في تشريح أي ظاهرة اجتماعية أو سياسية، ومنها الحراك الشعبي الذي يحدث في هذا البلد أو ذلك.
اللافت للنظر بأن الإعلام أحياناً يصف المتظاهرين في الشارع بأنهم الشعب، وأحياناً بأنهم طابور خامس. ولأن الممولين أكثر من أصحاب الأيديولوجيا، فإن إعلامهم عادة يكون أقوى وأكثر فاعلية وتأثيراً خصوصاً إذا ما تحرك الآلاف في الشارع مطالبين بالتغيير: هؤلاء بشكل تلقائي يتحولون الى «الشعب الذي يريد» خصوصاً إذا ما كان ما يريدونه يتوافق مع ما يريده من يمتلك الاعلام.
والحق يقال إنه وأمام عشرات وربما مئات الآلاف من المتواجدين في الشارع، لا أحد يسأل من هو الشعب الذي يريد، ومن هم المتحدثون باسمه.
كيف لهم أن يسألوا ومئات الآلاف موجودون في الشارع يرددون مطالبين بإسقاط النظام أو الحكومة أو يطالبون بالتغيير.
هذا هو الشعب، فلماذا إذاً السؤال؟ ألا تكفي هذه «الملايين الموجودة في الشارع» للدلالة على أنهم «الشعب»؟
لنفترض التالي: أن مئات الآلاف في هذا البلد أو ذلك قد حققوا مطالبهم وأسقطوا الحكومة أو النظام السياسي واستبدلوه بآخر على مقاسهم هو بالضبط كما يريدون، لكن بعد شهرين مثلاً، نزل الى الشارع مئات الآلاف مرة أخرى مطالبين بإسقاط النظام السياسي مجدداً واستبداله بنظام جديد.
في حالة كهذه، أو ليس هذا هو الشعب نفسه الذي خرج قبل شهرين مطالباً بالتغيير والذي حصل على التغيير الذي يريد؟ أم هو شعب آخر غير الأول، وقيادات هذا الشعب غير قيادات الأول؟
كيف للبعض أن يقول إن حراك هذا الشعب شرعي، أما حراكه بعد شهرين مثلاً غير شرعي؟
الشعب كما يبدو لي ومن يمثلونه بحاجة للتعريف، وبخلاف ذلك، يمكن لمجموعات من «اللصوص» أن تستثمر أي حراك شعبي لحسابها، وبذريعة «المطالب المشروعة» يمكن سحب الشرعية ممن هو شرعي حقاً وتسليمها لآخرين للعبث بها.
لا أريد التخصيص هنا والحديث عن هذا البلد أو ذلك، لكن هنالك خطوطا عامة يجب الاسترشاد بها لتحديد من هو الشعب ومن هم ممثلوه الشرعيون حتى يمكن الادعاء بأن «الشعب قد تحرك» وبأنه قد «قال كلمته».
نعلم أن هنالك بشكل عام نوعين من النظم السياسية في العالم: نظم يتم اختيارها بانتخابات مباشرة ممن يحق له الانتخاب، ونظم لم يخترها أحد بشكل مباشر، إما لأنها ظهرت في وقت تاريخي ما واستمدت مشروعيتها عبر التقاليد الموروثة، أو لأنها جاءت على ظهر دبابة ولم يُسمح لأحد من الناس بالاعتراض عليها.
في علم السياسة، النظام الأول يسمى ديمقراطياً، والآخر يصنف على أنه غير ديمقراطي ويقال عنه أيضاً استبدادي.
على أرض الواقع هناك تباينات في النظام السياسي لا تسمح لنا بالقول بأن الأول ديمقراطي والثاني استبدادي مائة بالمائة. ما هو مفروغ منه بأن كل من يحق له الانتخاب يقوم باختيار ممثليه أو يمتنع عن القيام بذلك في النظام السياسي الأول، بينما لا يقوم الشعب بذلك في الثاني.
بالنتيجة، في النظام الديمقراطي، الشعب وممثلوه معروفون، وآليات التغيير (الانتخابات) خلال كل أربع سنوات على الأغلب معروفة.
لذلك عندما يتظاهر البعض بعد الانتخابات وقبل موعد الانتخابات القادمة، حتى لو كان عددهم ملايين وحتى لو كان ما يقولونه ويطالبون به منطقياً وشرعياً، فهم ليسوا الشعب، لأن الأخير قد اختار ممثليه وهم من يتحدثون باسمه، ولأن آليات التغيير واضحة وهي الانتخابات عندما يحين موعدها.
الموجودون في الشارع ومن يتحدثون باسمهم شريحة من الشعب، لكنها لا تمثل الشعب ولا يحق لها أن تتحدث باسمه.
في النظم الديمقراطية، الانتخابات والدستور هما الفيصل.. هما الحكم وليس الشارع. بوش الابن أصبح رئيساً للولايات المتحدة العام 2000 بقرار محكمة ولم تنزل الى الشارع عشرات الملايين المؤيدة لخصمه «أل غور» للاحتجاج أو لرفع الشرعية عنه.
هيلاري كلينتون حصلت على ثلاثة ملايين صوت أكثر مما حصل عليه ترامب، لكن الدستور الأميركي يقول إن الهيئة الانتخابية هي التي تحدد من هو رئيس الولايات المتحدة وليس الغالبية في التصويت الشعبي. الدستور فيه مشكلة، هذه مسألة أخرى، لكن الأساس أن الجميع يحترم الدستور وأن الشعب ومن يمثله واضح في الدستور.
اذا طبقنا ذلك على ما يجري في بعض دول العالم العربي اليوم، فإننا نضع علامات استفهام كبيرة على تعابير مثل «الشعب»، «ممثلو الشعب» و»ماذا يريد الشعب».
في نظم الاستبداد السياسي، عندما يخرج مئات الآلاف، إذا تمكنوا من الخروج، فإن المعادلة تختلف لأن هذا النظام أو ذلك، لم يختره أحد أولاً، وثانياً لأن الذي لم ينزل الى الشارع مطالباً بالتغيير، ربما يخشى على حياته وربما ينتظر أن يتمكن من خرجوا أن يحدثوا التغيير نيابة عنه، وبالطبع ربما عن قناعة بأن النظام السياسي القائم هو أفضل لهم مما يطالب به من هو موجود في الشارع.
في جميع الحالات، لا نمتلك المعلومات التي تفيد بأسباب عدم مشاركتهم في احتجاجات الشارع، لكن كل ما نعلمه أن النظام السياسي الاستبدادي لم تختره الأكثرية الشعبية، وهذا يكفي للقول بأن من هم موجودون في الشارع يمثلون الشعب، وقياداته تمثل الشعب.
لكن هؤلاء الممثلين لا يمتلكون شرعيه حقيقية الى أن تحدث انتخابات. لهم الحق في أن يقودوا الفترة الانتقالية، إذا ما تمكنوا من إحداث التغيير، لغياب المؤسسات الديمقراطية، لكن شرعيتهم تنتظر نتائج الانتخابات، فهي إما أن تعطيهم الشرعية وإما ان تسحبها منهم وتعطيها لطرف آخر. والدستور في حالة كهذه، إما أن يوضع بالتوافق قبل الانتخابات وإما بعدها، لكن في الحالتين الانتخابات والدستور هما من يبينان لنا من هو الشعب ومن هم ممثلو هذا الشعب.
في العالم العربي، لا يجب تغطية الحقيقة واستلاب الشعب حقوقه لأسباب سياسية باستخدام كلمات مبهمة مثل «الشعب وممثلوه» والسؤال الذي يجب أن يسأل أولاً، هل انتخب الشعب ممثليه؟
إن فعل ذلك فمن هم موجودون في الشارع هم جزء من الشعب وهم ممن خسر الانتخابات أو لم يشارك بها وهم لا يعبرون عن غالبية الشعب وعن مصالحه.
حقهم الطبيعي أن ينتظموا في حركات سياسية وأن يجهزوا أنفسهم للانتخابات القادمة، لكن لا يحق لهم ادعاء تمثيل الشعب، أو المطالبة بتغيير النظام السياسي.
القيام بذلك، هو دعوة لجعل احتجاجات الشارع فوق العمل السياسي القانوني (الانتخابات) وفوق مؤسسات الدولة وقوانينها، وهذه في المحصلة دعوة للفوضى وللصراع الأهلي ينتصر فيه من يمتلك عدداً «وسلاحاً» أكثر لإلقائه في الشارع.