عبر أستاذ القانون الدستوري، قيس سعيّد، إلى «قصر قرطاج»، بعدما حصد نحو 76 بالمائة من الأصوات مقابل حصول منافسه نبيل القروي الذي أطلق سراحه قبل أيام على نحو 23 في المائة، في انتخابات لافتة، شارك فيها نحو 70% من التونسيين.
سعيّد أستاذ الحقوق المغمور، شكل مفاجأة الدورة الأولى، التي كانت أشبه بزلزال انتخابي، هز أعمدة السلطة في قصر قرطاج، وأطاح برؤوس كبيرة في المنظومة السياسية التونسية، فقد أزاح سعيّد الذي خاض غمار الانتخابات من خارج الأحزاب، وبدون مال، بكهنة السياسة: رئيس الحكومة يوسف الشاهد، ووزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي، ورئيس الجمهورية الأسبق المنصف المرزوقي، والقيادي الإسلامي عبد الفتاح مورو.
والأكيد، أن التجربة السياسية في تونس ما بعد ثورة الياسمين قد وقعت في الفخ عندما بنت فعلها السياسي على المعارك الأيديولوجية، بدلا من العمل على مشروع نهضوي، بلاقي طموحات ومطالب التونسيين.
عرفت أجيال من طلاب الجامعة التونسية، قيس سعيّد مدرسا، خلوقاً ومتواضعاً، لا يتغيب أحد عن دروسه التي يعشقون فيها عمقه المعرفي وفصاحته باللغتين العربية والفرنسية، ونقده اللاذع للفساد ومنظومة الاستبداد كاملة. ونال ثقة عشرات الآلاف من المتطوّعين الشباب والنساء والمثقفين في حملته الانتخابية، بعدما لمسوا صدقه في إعطاء الأولوية المطلقة لمطالب الشباب العاطل عن العمل والمهمشين.
وتبنى سعيّد شعارات الثورة التونسية في 2011: «شغل، حرية، كرامة وطنية». ونادى بتدعيم السلطة اللامركزية، وتوزيعها على المناطق، واعتبر أن الشعب هو مصدر السلطات، وأن الدستور يجب أن يكون قاعديًا، لذلك لا توجد ما تسمى دولة مدنية ولا دينية. ويمكن أن نسمي ذلك «بالشعبوية الدستورية» التي تدعو إلى تنزيل السلطة إلى القاعدة الشعبية بقلب هرم القرار بأن يكون الناس في كل أنحاء الوطن شركاء في إدارة الشأن العام عبر المجالس المحلية.
سعيّد وعقب إعلان فوزه رأى في النتيجة التي أحرزها، ثورة، لما عدها الفلاسفة وعلماء الاجتماع والتاريخ، ثورة بمفهوم جديد، ثورة صندوق في إطار الدستور. وجدد تعهده بدعم القضايا العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية وعبر عن أمنيته في أن يكون العلم الفلسطيني حاضرا جنبا إلى جنب مع العلم التونسي.
صحيح أن سعيّد حظي بدعم من حزب النهضة الإسلامي الذي دعا أنصاره للتصويت بكثافة له، ودعم: الحزب الشعبي الجمهوري، حزب «التيار الديمقراطي»، والتيار القومي العروبي، إلا أنه وفور فوزه بالرئاسة، أعلن عن استقلاليته عن كل الأحزاب والكتل البرلمانية والتيارات السياسية، ورفض مقابلة كل قيادات الأحزاب والتقاط صور معها، بما فيها قيادات الأطراف الإسلامية واليسارية والقومية، التي دعت للتصويت له.
وشهدت الانتخابات الرئاسية التونسية «معركة اصطفاف «بين تيارين: تيار مناصر للقروي الذي يصف نفسه بـ «الحداثي» و»العلماني» و»البراغماتي»، وتيار آخر يدعو إلى التصويت للدستوري سعيّد الذي يصف نفسه بـ»الثوري» و»والمناوئ للفساد» و»المنحاز إلى مطالب شباب الثورة، والهوية الوطنية العربية الإسلامية.
وخلال المناظرة التلفزيونية الأخيرة التي جمعته مع القروي، ظهر سعيّد متمكناً من السجال، وأظهر معرفة دقيقة بالملفات التونسية، بينما ظهر القروي مرتبكاً بعض الشيء، وشدد على مسائل مكافحة الفقر في المناطق الداخلية في بلاده. وحضرت القضية الفلسطينية بشكل بارز في المناظرة.
غير أنه من الواضح أن سعيّد سيواجه صعوبات وعقبات جمة، فيما يخص النظام السياسي غير واضح المعالم، الذي يريد جر تونس إليه، وهو الذي لا يمتلك خبرة سياسية سابقة. علاوة أنه لا ينتمي إلى كتلة برلمانية تدعمه في برنامجه السياسي الذي يحمل بصمته الخاصة. وخصوصا أن الانتخابات التشريعية التي جرت قبل أيام ، أنتجت برلمانا، يسيطر عليه المشهد الفسيفسائي، وحيث أن حزب النهضة الذي حل أولاً بـ52 مقعداً لا يستطيع تشكيل حكومة تتطلب مصادقة 109 نواب.
نقطة أخرى بالغة الأهمية، هي أن ثقل السلطة بات موزعا بين رئيسي الحكومة والبرلمان، نتيجة الحد من صلاحيات الرئيس التونسي، في الدستور الجديد، ما يجعل الرئيس، مكبلاً.
لتونس ألوانها الخاصة، ورائحة ياسمينها الخاص، وتجربتها السياسية الخاصة، وكشفت الانتخابات الرئاسية بنسختها الأولى والنهائية إلى أفقية التفاعل الشعبي مع العملية السياسية وإزالة الحواجز الموروثة على مدى سبعة عقود من الحكم، ويعني ذلك النظرة الجديدة لمفهوم السلطة، فلم تعد السلطة حكراً على أحزاب أو شخصيات. البناء السياسي القديم، يتعرض للهدم بمعاول الشعب التونسي، الذي فقد الثقة بمنظومة الحكم التي أتت بعد زين العابدين بن علي، وبوعودها الزائفة، فالنخب التي حكمت بعده لم تنجح في تحقيق أهداف الحراك الشعبي الذي انطلق في كانون الأول 2010 وكان عنوانه» الشعب يريد». وبعثت برسالة واضحة بأن هناك بناءً جديداً – من خارج صندوق التوقعات- بصدد التشكل... وهو قيس سعيّد.
ومن المبكر القول بأن تونس على أعتاب جمهورية رابعة، فيها هالة الحبيب بورقيبة، وذلك في لحظة تتسم بالغموض وغياب ما يمكن البناء عليه للقياس واستقراء الواقع ومفرداته الجديدة، باستثناء خطاب طوباوي مديد.
بقي السؤال، إلى أي حد نحن بالفعل أمام نخب تحمل ملامح النخب السياسية، لأن كل شيء ينقلب عندما توجد الديمقراطية، وحرية التصويت، ولا يوجد مشروع حكم عميق وقابل للحياة والإنتاج؟