أنشأ شخص، في سنوات أصبحت بعيدة الآن، علاقة خاصة مع النظام السوري، وكوفئ من النظام وحلفائه في معسكر «المقاومة والممانعة» بالمديح، وأكاليل الغار القومية. وتصادف أن المعني استعار فكرة تحض على تحويل إسرائيل إلى دولة لكل مواطنيها، سبق وعبّر عنها بعض الإسرائيليين لعل أبرزهم الأكاديمي يوسف أغاسي، في معرض الدفاع عن ضرورة وجود دستور دائم للدولة، وتكريس الديمقراطية الليبرالية كنظام للحكم.
والملاحظ أن خصوصية العلاقة إما حجبت عن المعني حقيقة أن سورية ليست دولة لكل مواطنيها، أو قللت من أهمية أمر كهذا، في نظره، طالما أن الأولوية «للمقاومة والممانعة»، أما حقوق الأقليات القومية، كالأكراد مثلاً، فمكانها القاع، أو في وقت لاحق لا يعلم أحد متى يلحق. في هذا الموقف، أي المطالبة بحق ما في مكان بعينه، وتجاهل وجوده، أو التقليل من شأنه، في مكان آخر، وبصرف النظر عن الدوافع والمبررات، ما ينطوي على شبهة الكيل بمكيالين.
ويمكن غض النظر عن الكيل بالمكيالين، إذا تصادف وكان صاحب الميزان سياسياً محترفاً يقدّم أمراً، ويؤخر غيره، دون التوقّف أمام اعتبارات أخلاقية كثيرة تحقيقاً لمصلحة ما. ولكن عمل المعني في الحقل الثقافي، أيضاً، واستعانته على السياسي بالثقافي، والعكس صحيح، جعل من التناقض بين موقف هنا، ونسيانه هناك، في ظل خصوصية العلاقة مع النظام، إشكالياً في أفضل الأحوال.
مصادر الإشكالية أن العامل في الحقل الثقافي، أو المثقف بالكلام الشائع، والملتبس دائماً، يشتغل في حقل القيم، والرموز، التي تستمد منها شرعية هذا النظام أو ذاك بطانتها الأخلاقية، وقد يكون مصدراً لتقويضها، أيضاً، إذا كان مُعارضاً للنظام.
لذا، فهو مرغوب ومرهوب، في آن، من جانب أنظمة تعاني من ندرة أو ضعف في مصادر شرعيتها. وجوده في الموالاة يعود عليه بالنفع المادي والمعنوي، بينما يعود عليه الوجود في المعارضة بالويل والثبور وعظائم الأمور. ودليل الفرق بين هذه وتلك انقلاب كل ما ناله من مديح، في وقت مضى، إلى هجاء بعد انقلابه على النظام. وبقدر ما اتسم المديح بالأريحية والمبالغة، قيل فيه، وعنه، في زمن الهجاء، ما لم يقله مالك في الخمر. فالمبالغة في المديح هي الوجه الآخر للفجور في الخصومة.
ولعل في هذا المثل، الذي يقوم، هنا، مقام وسيلة الإيضاح، ما يفتح قوساً أوسع للتفكير في أحكام القيمة، والقيم الأخلاقية التي يُنتظر من العاملين في الحقل الثقافي تمثيلها، وتوليدها، وتكريسها، وما يكتنف عملاً كهذا من إكراهات، وما ينجم عن الإخفاق في توليد قيم أخلاقية سامية، وغير متحيّزة، من تبلّد الحس وموت الضمير.
ولنبتعد عن الطهرانية المُفتعلة. فالعربي يعيش في ظل أنظمة لا تكفل حرية التفكير والتعبير. قضايا العالم العربي معقدة وإشكالية، ومشاكله مأساوية، وتقاليده، وثقافته، في الماضي والحاضر، شمولية وتسلطية، وهذه الأشياء مجتمعة تُولّد بيئة مثالية لنشوء وديمومة العصبيات الضيّقة، والعواطف السياسية الجامحة، والعمى الأيديولوجي، والعنف. ناهيك عن تحوّل بلدان وشعوب ومجتمعات في العقود الأخيرة إلى رهائن، وساحات مفتوحة للاستثمار المالي، والرهانات والمضاربات من جانب قوى في الداخل والخارج.
يُولد العامل في الحقل الثقافي العربي في بيئة كهذه، يستثمر فيها رأسماله الرمزي فيها، وعنها يرث القضايا والهموم. ومن الحماقة، بالتأكيد، استبعاد عدم التأثر بها، ومحاولة التأقلم معها، أو عدم القيام بعمليات حسابية، ومساومات أخلاقية، تكاد تكون يومية، أحياناً، لضمان أسباب البقاء. فلا أحد ينجو من الفساد في بيئة فاسدة.
ولعل أبلغ دليل على نجاح البيئة الفاسدة تطبيع الفساد نفسه إلى حد يبدو فيه وكأنه القاعدة لا الاستثناء. ففي العصبية القومية، والعاطفة الدينية، وكلتاهما يحميها النظام بكل ما لديه من وسائل الثواب والعقاب، ما يكفي لتفريغ الحقل الثقافي من المعنى، وما يجعل من الكيل بمكيالين رياضة يومية، هذا إذا شاء أحد الكلام في «السياسة» طبعاً.
وفي الأمرين، أيضاً، ما يبرر لبعض العاملين في الحقل الثقافي الترفّع عن السياسة بدعوى الشغل على قضايا أكثر تسامياً من أشياء «تافهة» كحرية التعبير والتفكير، والعدالة الاجتماعية، والتداول الديمقراطي للسلطة. وقد ينعى غياب هذه الأشياء كلها في كل مكان آخر ما عدا بلده، إن كان مقيماً فيه، أو حريصاً على العودة إليه، أو مرعوباً من خطر يتهدد عائلته وأقاربه هناك.
وفي سياق كهذا لا تكفي ملاحظة أن تقنيات فريدة من نوع الفضائيات، والإنترنت، والهواتف الذكية، قد زعزعت القدرات الرقابية التقليدية للدولة، وقدرتها على ضبط وتقنين القيم، بل تجدر ملاحظة أن كائناً جديداً اسمه الإعلامي قد احتل، بفضل الثورة التكنولوجية، مكان ومكانة المثقف في الحقل الثقافي.
وقد فعل هذا بلا عبء أو مؤهلات معرفية تستدعي العمل في، وعلى، رأس المال الرمزي، فكل «عدّة الشغل» لا تتجاوز حُسن المظهر وذلاقة اللسان. أما الثقافة الواسعة فغير ضرورية، في كل الأحوال، وقد تعطّل القدرة على اللياقة واللباقة. والمُلاحظ تآكل الفرق بينه وبين المثقف بسرعة قياسية.
على خلفية كل ما تقدّم من قرائن يمكن، ويصح، ويجب، الكلام عمّا أصاب قيم أخلاقية كثيرة من عطب نتيجة الكيل بمكيالين. وفتح عين هنا وإغماضها هناك. وقد تجلى هذا بشكل فادح في ما يبدو من «صحوة» متأخرة، هذه الأيام، من جانب أصوات كثيرة تثني على النظام في سورية لأنه «أفشل مؤامرة تقسيم البلد»، وعلى تبلّد والتباس المشاعر إزاء مأساة الأكراد في الشمال السوري، بل وحتى على مديح لأردوغان الذي يشن الحرب على أقلية قومية خذلها العالم، كما خذل الفلسطينيين.