ثمة أطراف دولية لها مصلحة في العدوان التركي الحالي على شمال سورية الذي تستهدف من ورائه القيادة التركية تأكيد حضورها في المشهد الإقليمي وصياغة خريطة جديدة للمنطقة تحقق مصالحها على المستويين الداخلي والخارجي.
عدوان أردوغان هذا الذي يجري في هذه الأثناء ليس الأول من نوعه، وإنما هو الثالث في إطار الضوء الأخضر الذي تحرص أنقرة الحصول عليه من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا اللتين تقرران وحدهما مآلات النزاع السوري.
الرئيس التركي قبل أن يعلن عن الساعة صفر لبدء العدوان، أطلق صافرات إنذاره لواشنطن بأن صبره نفد وأنه سيقدم على هذا الفعل من جانب واحد، ويبدو أن نظيره الأميركي ترامب فهم بأن عليه الاختيار بين التخلي عن الأكراد أو الأتراك.
في حسابات المصلحة، تركيا أهم من أكراد سورية بالنسبة لواشنطن، بدليل أن ترامب أولاً قرر سحب قوات بلاده من شمال شرقي سورية، ثم حين لاحظ كمّ الانتقادات الداخلية والخارجية التي تدين سلوكه، قال إنه أمر بنقل 50 جندياً من منطقة نطاق العدوان التركي.
بعد ذلك استمعنا إلى نبرته العالية إزاء تدمير الاقتصاد التركي في حال أقدمت الأخيرة على تجاوز الخطوط، وهذه الرسالة عاد وسحبها بمغازلة أنقرة والتذكير بأنها حليف استراتيجي مهم لواشنطن ولها دور قوي في حلف "الناتو"، وختم حديثه بدعوة نظيره أردوغان لزيارة واشنطن الشهر المقبل.
بالتأكيد، الولايات المتحدة موافقة على العدوان التركي، والحال كذلك بالنسبة لروسيا التي تجد أن من مصلحتها ومصلحة الحكومة السورية السكوت عنه، لأنه سيعني عودة الأكراد إلى الحضن السوري وطلب العفو عما سلف والتغاضي عن فكرة حكم ذاتي كردي أو دويلة مستقلة.
رفع الغطاء الأميركي عن أكراد سورية قد يعني بالضرورة عودة الاتصالات بقوة بين قوات سورية الديمقراطية والحكومة السورية، وهذا سيقود إلى اختصار زمن النزاع العسكري بالنسبة للجيش السوري وعدم دفع الثمن الكبير في حال قرر "ترويض" الأكراد، علماً بأن لهؤلاء ثقلين سياسيا وعسكريا ومناطق نفوذ تصل إلى ربع مساحة الجهورية العربية السورية.
الأكراد يسيطرون على شمال سورية بمساحة تقدر حوالي 46 ألف كيلومتر مربع، لكن أكثر ما يهم روسيا والحكومة السورية هو تحييد هذه القوة والتفرغ بعد ذلك لملف إدلب، ووضع حد للمعارضة السورية المعتدلة التي تنظر إليها الحكومة السورية على أنها الشر المستطير.
أما عن مصلحة تركيا من هذا العدوان، فهو يخدم أردوغان على المستويين الداخلي التركي والخارجي، إذ على الصعيد الأول يريد الرئيس "رجب" التفاف الرأي العام حوله خصوصاً بعد موجة الاعتقالات في صفوف معارضيه والتي طالت عشرات الآلاف.
أردوغان نفخ كثيراً في الهاجس الكردي واعتبره المهدد الأول لأمن تركيا، وفعل ذلك حتى يقنع الرأي العام بعقلانية وحكمة سياسته الخارجية، وحينذاك ينسى الناس ما فعله بالمعارضة وتآكل حزبه وشعبيته وسيصبح في عيونهم بطلاً كونه أنقذ تركيا من لعنة الأكراد!
على الصعيد الخارجي يريد أردوغان من الملف السوري الكثير، وأول شيء يريده هو إزالة ما يعتبره الخطر الكردي تماماً، وعدوانه يستهدف الأكراد لإضعافهم ونقل وجودهم إلى أبعد منطقة ممكنة تتجاوز المنطقة الآمنة التي اقترحها بعمق 32 كيلومترا داخل الأراضي السورية.
بعد ذلك يريد منع أي حزام كردي متواصل بين شمال سورية وجنوب تركيا مع أكرادها، بنقل 2 مليون لاجئ سوري وتوطينهم وفق تمويل تركي يصل إلى حوالي 26 مليار دولار، أي أنه إذا حقق ذلك سيكون رسخ تركيبة ديمغرافية جديدة تخدم أمن بلاده.
ثالثاً: كثيراً ما صرّح "أردوغان بأن بلاده منعت تدفق موجات اللاجئين من أراضيها إلى أوروبا، وحصل على ثمن مقابل ذلك وبالفعل أقفل أبوابه للجوء، لكنه عاد وكشّر عن أنيابه لأن دول الاتحاد الأوروبي لم تفِ بوعودها المالية، وبالتالي التلويح بهذا العدوان وسياسة فتح الأبواب للمهاجرين ستجعل أوروبا تدفع إلى تركيا "خاوة".
رابعاً: تُصوّر تركيا نفسها دولة إقليمية نشطة ومؤثرة في الساحة الدولية، وأردوغان يعزز هذا الدور من الملعب السوري، وأما خامساً فهو يريد أن يكون له وجود هناك، وهذا ربما يتحقق بالدعم الذي تقدمه بلاده إلى المعارضة السورية المعتدلة.
لابد من ملاحظة أن العدوان التركي لا يتركّز فقط على قوات تركية بقدر ما أن عماده فصائل تتبع الجيش السوري الحر، وهذا يُفسّر أن تركيا تحارب بأصدقائها وترغب في عودة قوية لهم حتى لو جاؤوا على ظهر دباباتها.
في هذا السياق من غير المستبعد أن يساوم أردوغان مع روسيا والحكومة السورية حول موقع المعارضة المعتدلة من الإعراب بعد العدوان التركي، وسيسعى لحجز مقعد لها في مستقبل النظام السياسي السوري بعد أن تضع الحرب أوزارها.
قد لا يعني العدوان أن أنقرة تقيس بالمتر والشبر المنطقة الآمنة التي تحلم بها وتتطلع إلى ترجمتها على أرض الواقع الآن، لأن ذلك سيعني طلب موافقة ثانية من الأميركان والروس، وحالياً هي تستثمر الوقت لإبعاد الأكراد عن كل من تل أبيض ورأس العين القريبتين من حدودها.
قد توسع تركيا من عدوانها إلى منطقة عين عيسى التي تبعد حوالي 60 كيلومترا إلى شمال غربي محافظة الرقة، لدفع الأكراد للانتقال إلى مناطق في العمق السوري، أو تكتفي بالتوغل العسكري في مناطق سورية قرب حدودها والمناطق البعيدة تقصفها بالطائرات الحربية.
على كل حال كل ذلك يحدث والعرب يتباكون على العدوان التركي، ويتناسون أنه كان عليهم ملء أي فراغ في سورية وعدم تركها ذبيحة للأطماع الدولية والإقليمية، وكانت المصلحة تستدعي التعامل مع الجرح العربي بالدواء العربي نفسه.
القصد أن سورية عانت من نزاع طويل كان يفترض على العرب حله أو على الأقل إبقاءه في دائرة النزاع غير المدوّل، لكنهم وفوق انقسامهم خضعوا لمحن عصفت بأوضاعهم الداخلية وتركت أبوابهم مشرعة لأطماع الغزاة والباحثين عن أدوار، وأردوغان منهم.
Hokal79@hotmail.com