لم تستقبل المبادرة التي تقدمت بها، من غزة، ثمانية فصائل وطنية فلسطينية بالترحاب والاهتمام المأمولين.
ورغم موافقة "حماس" عليها في إعلان احتفالي، فان ذلك يبقى في الحدود المبدئية والعامة. ولا يزيل الشكوك العميقة المتسربة من المحاولات السابقة حول حقيقة ومدى التجاوب الجدي مع المبادرة ونجاحها في إنهاء الانقسام تماماً.
وحتى لا يصحو الناس على اتفاق يضاف الى الاتفاقات السابقة التي لم تخرج من ظلام ملفاتها الى شمس التحقق والتطبيق.
البعض كانت له رؤية للمبادرة بأنها مجرد نوع من لفت النظر وشد الانتباه الى وجود القوى التي أصدرتها، ولاستمرار حضورها ووجود دور لها تقوم به. في وقت ومناخ يكاد يقتصر فيه الاهتمام وتنشد الإبصار الى القوتين المهيمنتين (فتح وحماس).
وفسر طريقة الإعلان عن المبادرة بانه تأكيد لهذه الرؤية ونوع من البهرجة الإعلامية.
لكن هذه الرؤية تبقى ثانوية، فليس هناك من خطأ في طرح المبادرة على الناس، ووضعها في صورة ما يجري وما تجري المحاولة لفعله، فهذا حق لها.
والرؤية أيضا، تبقى شكلية ولا تتعامل مع المضمون. فبنود المبادرة لا تقترح للناس أي دور ولا تدعوهم لأي مشاركة فاعلة ومستمرة، او لينخرطوا بتواصل في الجهود العملية لتنفيذ المبادرة، ولا تقدم لهم أي مدخلات لفعل ذلك.
لا يغير من هذه الحقيقة، الإعلان عن فكرة الدعوة الى تظاهرة مليونية فهي، اذا حصل وقامت فعلا، وعلى أهميتها، تبقى حدثا مرتبطا بزمن محدد ينتهي مفعوله بانتهاء ذلك الزمن.
بشكل عام، المبادرة جاءت على درجة من التماسك وامتلاك المنهجية واقتراح آليات التنفيذ.
لكنها، ربما لعدم قدرة اصحابها على تبني واحد بعينه من الاتفاقات السابقة ليكون المرجعية، فإنها وضعت كل الاتفاقات السابقة كمرجعيات، رغم ما بينها من اختلاف وتضاد في المعالجة وفي الظروف وفي اقتراب كل منها من رؤى ومطالب هذا الطرف او ذاك. مع ان الخلافات تمحورت بعد سنين من الانقسام المريرة في عناوين مركزية ومحددة جدا.
لجهة المبدأ والضرورة، فان ما جاء في المبادرة صحيح تماما وضروري جدا وواجب ملحّ، وتلتقط الضرورة الوطنية الضاغطة بإلحاح استثنائي لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية.
لكن المبادرة تبقى مستقرة في خانة المبادئ النظرية العامة، والضرورات الوطنية والضاغطة. وتبقى أقرب الى المناشدات العامة والصادقة. لكن إمكانية انتقالها الى حيز الواقع والتحقق بعيدة جدا، ولا نقول مستحيلة.
يشهد على ذلك ان الظروف والعلاقات الوطنية الفلسطينية وتحديدا بين التنظيمات السياسية القائمة، هي اقل ملاءمة وفرصها في تحقيق اختراق أضعف مما كانت عليه في المحاولات العديدة السابقة، والتي لم ينجح أي منها.
الواقع يؤكد، ان التنظيمات الثمانية، ومع نجاحها في إطلاق المبادرة، ليست قادرة على "إنجاز المهمة"، ولا تمتلك المقومات الواقعية لفرض رؤيتها.
يعود ذلك لأسباب خاصة بالتنظيمات نفسها، تتعلق بضعف الحضور التنظيمي والجماهيري والنضالي والسياسي لمعظمها، وتأثير ذلك على توازن القوى في الساحة الوطنية، او أسباب خارجية، تحالفية بالدرجة الأولى.
"حماس" مثلا، ليست في وارد تسليم سلطتها الانفرادية في غزة "بأي شكل من الاشكال" كما صرح بذلك علنا أكثر من مسؤول فيها.
بالمقابل، حركة فتح وعدد من التنظيمات معها، تعلن، انها لا تقبل باي حلّ لا يبدأ بعودة غزة الى حضن السلطة الشرعية الفلسطينية الموحدة ومؤسساتها، بغض النظر عمن يكون في موقع القيادة فيها اذا ما وصل لها عبر انتخابات عامة شعبية وديموقراطية.
هذا الوضع، يؤشر واقعيا الى انسداد الأفق امام هذا الشكل من المعالجات الذي تقترحه المبادرة، ويفرض التفكير بطرق مختلفة لمعالجة الوضع القائم والخروج منه. وتبقى العودة الى الجماهير وحضنها أهم هذه الطرق وأسلمه.
لماذا مثلا، لا تبادر التنظيمات المعنية، او بعضها، بالدعوة الى تشكيل هيئة مجتمعية مستقلة ومحايدة تكون بأوسع درجة من شمول التمثيل لقوى المجتمع: من الهيئات المنتخبة كالبلديات والمجالس القروية وغرف التجارة والصناعة، ومن الاتحادات الشعبية والنقابية ومن الأكاديميين، ومن الشخصيات ذات التاريخ النضالي، والشخصيات الوطنية ومن رجال الأعمال، و...و..
وان تكون الهيئة صاحبة مشروعها التوحيدي وقرارها، وليست مجرد واجهة شكلية لأي من التنظيمات، أو أي جهة أُخرى.
وان يكون الهم والمظهر الأساسي لعملها هو التواجد بين الناس ودفعها لتشكيل قوة ضغط جماهيري قوية ومتواصلة غير هيابة ولا مجاملة، مع حقها في العمل بكل حرية وتلقي الدعم والحماية من الناس أولا ومن القوى المجتمعية والسياسية.
وتوظيف الضغط الجماهيري باتجاه التنظيمات السياسية، لصالح مشروعها الوحدوي المتمثل في انهاء الانقسام واستعادة وحدة وفاعلية الوضع الوطني الفلسطيني بكافة مؤسساته وهيئاته وبرامجه الموحدة، وعلى القواعد والأسس المجمع عليها وطنياً (نظرياً على الأقل) :
المنظمة وشرعية ووحدانية تمثيلها، ووحدة القيادة الوطنية وبرنامجها النضالي، والتمسك بأهداف النضال الوطني التاريخية والمرحلية، والدولة ذات السيادة، والقدس و...و...
ويبقى الشرط الملازم لنجاح الهيئة المذكورة في عملها هو اعتمادها لانتخابات العامة وسيلة ديموقراطية وحيدة لحسم الاختلاف الطبيعي والصحي في الرؤى والبرامج، وفي الحضور والتمثل في الهيئات التشريعية والتنفيذية المسؤولة.
بدون العودة لحضن أهل الوطن، وبدون اعتماد الانتخابات العامة، يصعب رؤية افق مفتوح لحل ينهي الانقسام ويستعيد الوحدة الوطنية .... ويدوم.