عن «الصبر الاستراتيجي» و«النهايات المفتوحة» للأزمات..عريب الرنتاوي

السبت 28 سبتمبر 2019 03:06 م / بتوقيت القدس +2GMT
عن «الصبر الاستراتيجي» و«النهايات المفتوحة» للأزمات..عريب الرنتاوي



بحيرة بالغة يتابع المراقبون وصناع القرار في المنطقة، التقلبات المتواصلة – وأحياناً المتناقضة - في المواقف والسياسات الأميركية حيال أزمات الإقليم المفتوحة ... يستوي في ذلك، خصوم الولايات المتحدة مع أصدقائها... تلك السياسة التي تتيح لمنافسي واشنطن وأعدائها "التمادي" في تطلعاتهم لتحقيق المزيد من المكتسبات والخروج بأعلى قدر من الأرباح أو أقل قدر من الخسائر ... فيما الحلفاء المتخوفون من "النهايات المفتوحة" لأزمات المنطقة، يبحثون في خياراتهم وبدائلهم، حتى وإن تطلب الأمر، البحث عن حلفاء جدد، وعقد شراكات جديدة، وسنكتفي هنا بتناول الملف المهيمن على أجندة إدارة ترامب الخارجية: إيران، بوصفه مثالاً ونموذجا وليس استثناءً أو خروجاً عن القاعدة.
بدأت إدارة الرئيس دونالد ترامب ولايتها، بتوجيه أشد الانتقادات للاتفاق النووي مع إيران، وحمّلت إدارة أوباما المسؤولية عن إبرام "أسوأ اتفاق من نوعه في التاريخ"، وتهددت طهران بشتى الخيارات بما فيها الخيار العسكري، ووصل الأمر حد التلويح بـ"مسحها عن الخريطة"، وفرضت عليها أشد العقوبات، واستعملت ضدها تكتيك "أقصي الضغوط"، ظنّا منها أن ذلك كله سيدفع إيران لرفع الراية البيضاء، والنزول عند شروط مايك بومبيو الثلاثة عشر، لكن ذلك لم يحدث على الإطلاق، وبدأت إدارة ترامب التخلص من كبار المسؤولين الذي ساهموا في صنع تلك السياسات وتشكيل تلك المقاربات، لعل أهمهم وأكثرهم "صقرية" على الإطلاق: جون بولتون.
اليوم يبدو المشهد مغايراً نسبياً ... صحيح أن إيران تضررت إلى أبعد الحدود من نظام العقوبات الصارم المفروض عليها ... لكن في المقابل، فشلت واشنطن في حشد جبهة عالمية مؤيدة لها في مقارباتها، أوروبا تنصلت من هذه السياسة، وفرنسا تقود جهودا للوساطة بين طهران وواشنطن، وروسيا رفضتها بقوة، وهي تقف متأهبة دائماً لملء الفراغ الأميركي في أي ساحة وعلى أي صعيد... أما الصين، فهي أكثر الجهات المؤهلة لفتح ثغرة واسعة في جدار العقوبات الأميركية على إيران ... هذه المواقف والتطورات تقلق واشنطن بلا شك، وتدفعها لتدوير بعض الزوايا الحادة في مواقفها وسياساتها كما بدا واضحاً في الآونة الأخيرة.
لا شيء يشغل الرئيس ترامب الذي يتحضر لخوض معركته الانتخابية الشرسة مع منافسيه، أكثر من فتح مسار تفاوضي مع طهران، لا شيء أهم لترامب على ما يبدو من التقاط صورة مع الرئيس روحاني على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، وهو في سبيل ذلك، أبدى استعداداً لـ"دراسة" المقترح الفرنسي، وينظر في إمكانية تخفيف العقوبات توطئة لقمة مأمولة مع الرئيس الإيراني.
وفي مسارٍ موازٍ، تبدي واشنطن حماسة ظاهرة لمعاودة الحوار مع "جماعة أنصار الله الحوثية" ... الحوثيون هم من "عطّل" جولة من المفاوضات كانت مقررة قبل أقل من أسبوعين في مسقط بين وفد أميركي رفيع وممثلهم في الخارج محمد عبد السلام، والسبب يعود إلى تحميل الحوثي للولايات المتحدة، المسؤولية عن الضربات الجوية التي استهدفت سجناً في محافظة ذمار، يبدو أن الحوثيين كانوا يخفون تحته أو بقربه، "كنزاً استراتيجيا" من أسلحة صاروخية وطائرات مسيّرة، من خلال تقديم استخباراتها العسكرية لإحداثيات الموقع ومعلومات عن محتوياته لدول التحالف.... السعودية تغرق في المستنقع اليمني، ولا تعرف كيف تخرج، سيما بعد التحولات الأخيرة في مواقف الإمارات وتوجهاتها، وسيزداد هذه المأزق عمقاً، إن صحت التقديرات بقرب انسحاب القوات السودانية من اليمن (قبل نهاية العام)، أو على الأقل إعادة نشرها على الأراضي السعودية، وإبعادها عن جبهات القتال داخل اليمن ... المأزق اليمني لا يخص السعودية وحدها، فإدارة ترامب في مأزق كذلك، ليس مع المجتمع الدولي الذي ضاق ضرعاً بالحرب والتقارير الأممية عن كلفها الإنسانية الهائلة، بل ومع الكونغرس الأميركي ذاته، الذي لا يخرج من جولة نقاش حول الدعم الأميركي للتورط السعودي في اليمن، حتى يدخل في جولة جديدة.
السعودية تتابع باهتمام التحولات في المواقف المحيطة بالملف اليمني الشائك، وترقب على نحو خاص، التحولات في المواقف الأميركية ... إسرائيل تفعل شيئاً مماثلاً، وربما بقدر أعلى من الدقة والاهتمام ... السعودية لا ترفض التفاوض الأميركي – الإيراني من حيث المبدأ، بخلاف إسرائيل التي لا تريده وتخشاه وتفضل عليه، المزيد من سياسات "أقصى الضغوط"، وصولاً إلى "الخيار العسكري" ربما... لكن لا ضمانة لدى السعودية، بأن مصالحها ستؤخذ بنظر الاعتبار حين تلتئم مائدة المفاوضات الأميركية – الإيرانية.
وثمة قناعة متزايدة في عديد من عواصم المنطقة، بإن إدارة تريد تحقيق "إنجاز كبير" في سياساتها الخارجية عشية الانتخابات الرئاسية 2020، ومحاولاتها فعل ذلك في كوريا الشمالية وأفغانستان وفنزويلا لم تؤت ثمارها بعد، وقد لا تؤتي مثل هذا الثمار في المدى المنظور، ومن غير المنتظر أن تلقى المبادرة المعروفة باسم "صفقة القرن" أي ترحيب أو رواج في المنطقة... ليبقى أمامها أن تحاول مع إيران، حتى وإن كانت المحصلة إعادة انتاج اتفاق فيينا النووي، مع إطالة وتمديد للآجال الزمنية للالتزامات الإيرانية كما يقول بعض المراقبين وبعض المصادر ... هذا أمر يقلق حلفاء واشنطن، من تل أبيب التي راهنت على إدارة ترامب لإغلاق هذا الملف، مروراً بالإمارات التي يبدو أنها قفزت من سفينة التحالف العربي، وقبلها مع مصر التي رفضت الانخراط في مشروع "الناتو" العربي، واليوم يبدو أن السعودية تفكر جدياً في استحداث الاستدارة، وإن بصعوبة أكثر ووقت أطول، لكن ثمة مؤشرات على تزايد احتمال كهذا، فقنوات التواصل غير المباشرة – القناة العراقية – تعمل بقوة على هذا الصعيد، والطريقة التي أدير بها ملف الحجيج الإيراني هذا العام، كانت بمثابة رسالة أخرى، والإفراج عن "القارب الإيراني" الذي جنح في مياهها وتسليم طاقمه إلى طهران عبر الوسيط العماني، من دون قيد أو شرط، هو مؤشر ثالث آخر على مثل هذا الاحتمال.
حالة التردد الناجمة عن انقسام الإدارة الأميركية، والخلافات التي تكشفت بين أركانها، تضفي قدراً من القلق والتحسب على مواقف حلفاء واشنطن وانحيازاتهم وتفضيلاتهم ... ولولا أن ثمة انقساما مماثلا، وربما أكثر عمقاً داخل صفوف الإدارة الإيرانية، بين محافظين – ثوريين متشددين، وإصلاحيين معتدلين، لربما كانت مائدة المفاوضات الإيرانية – الأميركية قد التأمت منذ زمن.
إيران تتابع مواقف واشنطن وحلفائها، وترى رأي العين، كيف تفضي التقلبات في المواقف الأميركية إلى انفضاض بعض حلفائها من حولها، أو تراجعهم عن بعض مواقفهم المتشددة حيالها ... لكن إيران تبدو عاجزة عن توحيد رؤيتها ومواقفها، وقد تطول هذه العملية، وتستغرق وقتاً أكبر مما يُظن، وقد تتبدد فرصة استئناف المفاوضات جراء الاستحقاق الانتخابي الأميركي الداهم ... كل هذا وارد، لكن المؤكد أيضاً، أن طهران لم تعد تطيق صبراً على نظام العقوبات، وهي ليست متأكدة من أن الانتخابات الرئاسية الأميركية، ستنتهي إلى خروج دونالد ترامب من البيت الأبيض ... لذلك فإن نافذة الفرص لحدوث تحول في الأزمة الأميركية – الإيرانية، تبدو قائمة ومفتوحة، إن لم يكن لإنجاز صفقة بديلة للاتفاق النووي، فعلى الأقل، للشروع في مفاوضات جادة حولها.
يثبت ذلك أن استراتيجية "إدارة الأزمات" وتكتيك "النهايات المفتوحة" لها يتطلب "صبراً استراتيجياً"، يبدو أن الإدارة الإيرانية قادرة على التحلي به، برغم صعوباتها الفائقة، أكثر من إدارة ترامب، التي تظهر يوماً إثر آخر، وأزمة تلو أخرى، أنها لا تتوفر عليها، وأنها تولي هذه الأزمة أو تلك تركيزاً واهتماماً شديدين لبعض الوقت، قبل أن ينصرف اهتمامها وينصب تركيزها، على أزمات أخرى.