إعلان الرئيس محمود عباس، في الجمعية العامة للأمم المتحدة، عن دعوته بعد عودته إلى فلسطين لإجراء انتخابات عامة، يهدف لتجاوز التوجه بمثل ذلك الطلب إلى إسرائيل، كما حدث في المرتين السابقتين، وهو في الوقت الذي يسعى فيه إلى إحداث ضغط أممي على إسرائيل لعدم عرقلة إجراء تلك الانتخابات، يسير في مجرى سياسة السلطة للفكاك من العلاقة مع إسرائيل وفق أوسلو، كما تفعل حكومة د.محمد اشتية منذ تولت الحكم.
بالطبع ليس من المتوقع أنه بمجرد أن يعلن الرئيس في الأمم المتحدة نيته إجراء الانتخابات، أن تتجند قوة دولية لفرض إجرائها على إسرائيل، كما أن دعوته أو حتى إصداره للمرسوم الرئاسي بعد ذلك ليس معناه أن يتم إجراء الانتخابات فعليا، ذلك أنه بعد ممانعة إسرائيل لإجرائها وهي التي لا تريد للانقسام الفلسطيني أن ينتهي، سيواجه تنفيذ إجراء الانتخابات المنع الحمساوي، حيث لن توافق "حماس" بل ستمنع إجراء مثل تلك الانتخابات في غزة، حتى لو كانت متأكدة من أنها ستنتهي على شاكلة الانتخابات الإسرائيلية، أي إلى حالة من التوازن بينها وبين فتح.
المهم هو أن القيادة الفلسطينية، تقاتل وفق إستراتيجية سياسية، يمكن وصفها بأنها الدفاع الهجومي، وهي بتقديرنا انتقلت خطوة عما كان عليه الحال قبل خمس سنوات مضت، وخير دليل على ذلك هو خلو خطابها مما كان يتضمنه سابقا من المطالبة الدائمة بالتمسك بالاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل والعودة للمفاوضات على أساسها، وقد بدأ ذلك منذ تولي دونالد ترامب إدارة البيت الأبيض الأميركي، وشيئا فشيئا، تذهب السلطة على طريق "فرض" حقائق سياسية على الأرض، دون طلب الأذن الإسرائيلي، وهي تقاتل وفق أسلوب ناعم وحثيث يهدف إلى تحقيق النقاط وتجميعها، لإحداث النقلة النوعية في نهاية الأمر، والتقدم لها بشكل مؤكد وثابت.
ولا شك بأن الدعوة لإجراء الانتخابات هي مطلب وطني وشعبي فلسطيني، وهي في الوقت الذي ستحدث فيه ضغطا أمميا على إسرائيل، لأن العالم لن يفهم ممانعة إسرائيل لها، ستحدث ضغطا على "حماس" لإنهاء الانقسام والخروج من نفق الاقتراحات والمداولات، وهي في حقيقة الأمر ستقدم سلاحا قويا لما تقول به الفصائل التي قدمت مؤخرا مبادرتها والتي تخطط لإطلاق مليونية إنهاء الانقسام، حيث يمكن لتلك المليونية في حال حدوثها أن ترفع شعار إجراء الانتخابات كمطلب قابل للتحقق وكطريق أقصر لإنهاء الانقسام فوراً.
مجمل القول بأن السلطة التي أنجزت صمودا، بإظهارها رباطة الجأش في مواجهة الهجوم العنيف الذي يشنه عليها ثنائي ترامب/نتنياهو منذ ثلاث سنوات، تظهر اليوم شجاعة في الهجوم الدفاعي، وقد شجعها على ذلك انجازان تحققا خلال الأسابيع والأشهر الأخيرة، ونقصد بهما، نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة التي جاءت بما لم يكن يأمل به اليمين الإسرائيلي المتطرف، كذلك فرض العقبات في طريق صفقة ترامب التي إن لم تكن السلطة قد تسببت في إجهاضها بعد، فإنها قد وضعت العراقيل في طريقها، وأبطأت من انطلاقتها وأحاطت طرحها عوضا عن فرضها، بالكثير من الشكوك.
والانجاز لم يقتصر على السلطة والقيادة الفلسطينية وحسب، بل إن صلابة قادة العرب الفلسطينيين في الداخل الإسرائيلي والحنكة السياسية والشجاعة التي تحلى بها كل من أيمن عودة واحمد الطيبي، في مواجهة اليمين الإسرائيلي، وفرض القائمة المشتركة على قوى أظهرت قدرا أقل من النضج، قد حقق إنجازاً، صحيح أنه سبق وأن تحقق عام 2015، أي الظفر بثلاثة عشر مقعدا نيابيا في الكنيست، لكنه هذه المرة بطعم الشهد، لأنه منع اليمين من الحصول على الأغلبية البسيطة التي توفر له الإمكانية التلقائية في تشكيل الحكومة، كما حدث في عام 2015، حين حصل اليمين في ذلك العام حتى دون حزب ليبرمان على أغلبية الواحد وستين مقعدا.
كذلك يمكن القول بأن غزة حققت إنجازا ما، يتمثل حتى اللحظة في القناعة الإسرائيلية بعدم التفكير في العودة لاحتلالها مجددا، أو في إرسالها إلى "كيان مستقل"، كذلك في كون "قدرتها العسكرية" تمثل رادعا أو حتى "إزعاجا" لسكان غلافها، وفي أن تكون بند خلاف داخلي ساهم بهذا الشكل أو ذاك في تفكك وحدة اليمين الإسرائيلي الداخلية، كذلك في كونها تمثل "إغراء" لبعض القوى الإقليمية في الاهتمام بالشأن الفلسطيني.
لكن المشكلة تكمن في أن المخاطر ما زالت ماثلة، نقصد خطر ضم أجزاء من الضفة، والحرب على غزة، وحتى عودة اليمين المتطرف للحكم في إسرائيل، وفي كون الانجازات الفلسطينية متفرقة، ولا تقوم على أساس التكامل التام، فماذا لو أن فلسطينيي العام 67، أي الضفة والقطاع والقدس قد توحدوا، كما حدث مع فلسطينيي العام 48؟ من المؤكد بأن حجم الانجاز سيكون مضاعفا، بل ونوعيا، لذا فإن النقلة النوعية، أو الانتقال من حالة الدفاع_مرورا بالمنطقة الرمادية أو الوسطى، أي الدفاع الهجومي_ والذي يغادر منطقة الصمود وعدم الانهيار _ لحالة الهجوم، يتطلب إنهاء الانقسام ولا شيء آخر.
في الحقيقة، كما كان لليد الإسرائيلية علاقة بالانقسام، ولأن كل شيء يحتوي نقيضه، فإنه رغم الفرقة التي لها أسبابها، وظروفها، فإن العدو نفسه قد وحد الفلسطينيين المنقسمين، من حيث لا يدري ولا يتمنى، فتوحد نتنياهو مع ترامب وشنهما للهجوم الكاسح على الكل الفلسطيني، إن كان من خلال الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، أو وقف تمويل الأونروا، أو الإعلان عن اعتزامه ضم الخليل وشمال البحر الميت، والتخطيط لصفقة القرن، كذلك سن قانون القومية في إسرائيل، أي باختصار من خلال شن الهجوم على كل مفردات وبنود الملف الفلسطيني، في كل مناطق تواجده، ودون استثناء أحد من مكوناته، قد وحد الجميع ضد هذا الثنائي، بالضبط كما توحد خصوم نتنياهو ضده، بمن فيهم اليميني المعادي للفلسطينيين سواء كانوا في غزة أو الضفة أو داخل إسرائيل، ونقصد به أفيغدور ليبرمان، وما دام العدو يوحدنا، فضلا عن الانتماء للوطن والهوية ووحدة الحال والمصير، فلا شيء يجب أن يفرقنا، لذا فإنه طالما نحن نتجاوز خطر الانهيار، وطالما نحن لم نسقط، فإننا قادرون على النهوض مجددا، والهجوم مجددا، وفرض معادلة جديدة على العدو، أقلها، أن يرتبط وجوده بوجودنا، وأن يصبح مفتاح أمن إسرائيل وحتى وجودها مرتبطاً بأمن ووجود دولة فلسطين.