عن «الهلال الشيعي» و«الجبهة الشرقية»..عريب الرنتاوي

السبت 14 سبتمبر 2019 05:06 م / بتوقيت القدس +2GMT
عن «الهلال الشيعي» و«الجبهة الشرقية»..عريب الرنتاوي



أربعة تفجيرات "غامضة" ضربت مواقع ومستودعات تتبع فصائل "الحشد الشعبي"، أعادت الجدل من جديد حول ما إذا كانت "حرب الوكالة" التي عاشها العراق منذ سقوط نظام صدام حسين، ستتخذ شكلاً جديداً، وسيدخل إلى حلبتها، لاعبون جدد هذه المرة، إسرائيل وإيران والولايات المتحدة... أبعد من ذلك، فقد تشعب الجدل إلى حد استحضار مفهوم "الجبهة الشرقية" الذي طويت صفحته مع انطلاق مسار مدريد ـ أوسلو ـ وادي عربة، قبل أن ينسحب من التداول كلياً، ولأكثر من ستة عشر عاماً أعقبت سقوط نظام البعث في بغداد.
تناقلت وسائل الإعلام أنباء عن وقوع انفجارات "غامضة"، ضربت مستودعات ومواقع تتبع فصائل الحشد الشعبي/الشيعي في العراق، وبالأخص فصيل "حزب الله العراقي"... بعضها قيل إنه يتبع مباشرة للحرس الثوري الإيراني، ويستخدم كمراكز لتخزين أسلحة نوعية إيرانية، توطئة لنقلها إلى حزب الله اللبناني... الحكومة العراقية لزمت الصمت على التفجيرات الأولى، فيما الحشد الشعبي بدأ بتوجيه أصابع الاتهام لإسرائيل والولايات المتحدة، وسط انقسام داخل الطبقة السياسية الحاكمة في العراق، طال قيادات الحشد الشعبي نفسه... ففيما وجه أبو مهدي المهندس أصابع اتهامه للولايات المتحدة، بالضلوع في تسهيل وصول الطائرات الإسرائيلية المسيّرة إلى مواقعه، نفى رئيس هيئة الحشد ومستشار الأمن القومي العراقي فالح الفياض، أن تكون اتهامات نائبه المهندس، تمثل وجهة النظر الرسمية للحشد الشعبي.
واشنطن نفت ضلوعها في أي من هذه الأعمال، مباشرة أو بصورة غير مباشرة، فيما إسرائيل التي عادة ما تتأخر في إعلان مسؤوليتها عن عمليات من هذا النوع، اكتفى قادتها بالتلميح، بدل التصريح، إلى قيام إسرائيل بتنفيذ عمليات ضد أهداف إيرانية في سورية والعراق، شمل ذلك رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو نفسه، فضلا عن قادة أمنيين وعسكريين... الأمر الذي ترك السلطات العراقية في "حرج شديد"، فهي من جهة لا يمكن أن تقبل بدور إسرائيلي في استهداف الحشد، وهي من جهة ثانية تخشى تحول العراق إلى ساحة "حرب وكالة" بين إسرائيل والولايات المتحدة من جهة، وجمهورية إيران الإسلامية من جهة ثانية، ولعل هذا ما حدا بالرئاسات العراقية الثلاث، للتداعي إلى عقد اجتماع طارئ على عجل، عبّر خلاله الرؤساء الثلاثة عن هذه المخاوف، وطالبوا التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، بالعمل على ضمانة سلامة الأجواء العراقية.
الاجتماع الرئاسي الثلاثي، جاء لاحتواء تداعيات الضربات الجوية المتكررة التي ضربت الحشد الشعبي في الأسابيع القليلة الفائتة، لا سيما بعد أن تأكد أنها جاءت بفعل فاعل، وبضربات من الجو... فقد بدأ السياسيون العراقيون بتراشق الاتهامات فيما بينهم. منهم من اتهم "بعض سنة العراق العرب والأكراد" ومن أسموهم بـ"شيعة السفارة"، المقصود السفارة الأميركية، بالصمت والتواطؤ مع هذه الاعتداءات... ومنهم، من رأى فيها فرصة لتجديد المطالبة بحصرية السلاح في يد الدولة ومؤسساتها النظامية، وتسريع عملية تفكيك هذه المليشيات المسلحة.
نجحت المكونات العراقية في الحفاظ على "توازن دقيق" في موقع العراق وموقفه من الصراع الأميركي ـ الإيراني، وفي الوقت الذي يتخذ فيه كل مكون ما يشاء من مواقف وانحيازات، حرصت الحكومة على اعتماد سياسة "النأي بالنفس" عن هذا الصراع... لكن دخول إسرائيل على خط الصراع ضد إيران، يجعل مهمة الساسة العراقيين في حفظ هذا التوازن الهش، صعبة للغاية... وقائع الأيام الأخيرة، تعكس حالة "الحيرة" التي تهيمن على الطبقة السياسية العراقية، فهي من جهة لا يمكن أن تقف في الخندق الأميركي ضد إيران، مثل هذا الخيار، قد يشعل فتيل حرب أهلية متجددة في بلاد الرافدين... ولكنها من جهة ثانية، غير قادرة على الوقوف مع إيران في مواجهة الولايات المتحدة، فمثل هذا الخيار، سيفضي إلى انهيار "المعادلات الدقيقة والحساسة" التي تضبط إيقاع نظام المحاصصة الطائفية العراقي، فضلا عن حاجة الحكومة العراقية المستمرة للدعم الأميركي في الحرب على الإرهاب، ومن أجل حفظ التوازنات الإقليمية والدولية التي تحيط بالعراق عموماً.
لكن دخول إسرائيل على خط المواجهة الأميركية ـ الإيرانية، سيجعل مهمة أصدقاء واشنطن في العراق صعبة للغاية، وسيصيبهم بحرج شديد... تفاعلات قضية "التفجيرات الغامضة" لم تنته بعد، وليس متوقعاً أن تنتهي في المستقبل القريب، لا سيما إن واصلت واشنطن تنصلها من مسؤولياتها في حفظ الأجواء العراقية من أية انتهاكات، إسرائيلية أو غيرها، وفي حال أصرت حكومة اليمين في إسرائيل على المضي في مغامراتها هذه... الأمر الذي ينذر بتداعيات صعبة للغاية على الداخل العراقي وعلى العلاقة بين مكوناته المختلفة، بل وينذر باحتمالات قيام فصائل من الحشد، بتنفيذ ضربات انتقامية ضد أهداف إسرائيلية (وربما أميركية) برضى الحكومة العراقية وموافقها، أو بالضد من إرادتها وبالرغم عنها.
تاريخيا، ارتبط مفهوم "الجبهة الشرقية" بفكرة "العمق الاستراتيجي" الذي طالما شكله العراق بالنسبة للأردن والعراق في الحروب العربية ـ الإسرائيلية... ولطالما نُظر للعراق في الضمير الجمعي العربي على هذا النحو. هذه الصورة تغيرت تماماً، مع سقوط نظام صدام حسين، وقبله كنتيجة لمفاعيل عملية السلام بين العرب وإسرائيل، وبعده في ضوء التمدد الإيراني الكبير في المنطقة، والذي أطلقت بشأنه تحذيرات كثيرة من نوع: "الهلال الشيعي" أو "الممر الإيراني".
لقد حل مفهوم "الهلال الشيعي" محل مفهوم "الجبهة الشرقية" في الوعي الشعبي العام، وفي سياق الانقسام المذهبي العميق الذي ضرب المنطقة بمجتمعاتها المختلفة... ولقد تغذى هذا المفهوم وتكرس بفعل "حروب الوكالة" التي اندلعت في المنطقة، وبفعل أحداث كثيرة وقعت خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة، من اغتيال الرئيس رفيق الحريري في بيروت، إلى سيطرة حزب الله على العاصمة اللبنانية في 2008، مرورا بفوز حركة حماس في انتخابات 2006 في فلسطين، قبل أن ينطلق قطار الربيع العربي من محطته التونسية، ويصل إلى محطته الدمشقية، حيث تحولت سورية إلى واحدة من أكبر وأخطر ساحات حروب الوكالة.
وحمل مفهوم "الهلال الشيعي" أكثر المعاني سلبية وأشدها خطورة على وحدة النسيج الاجتماعي في دول المشرق ومجتمعاته، وارتبط في أذهان شعوب المنطقة بسعي إيراني للهيمنة وفرض مذهبها الشيعي على الغالبية السنية لسكانها... وخسر حزب الله مساحات هامة من غطائه السنّي التي كسبها في حروبه مع إسرائيل، لكنه ما زال ولهذا السبب بالذات، يحظى بتأييد قطاعات منهم، ضربت الذكر صفحاً عن دوره في سورية، لأنه، برأي هذه القطاعات، ما زال مشتبكاً مع إسرائيل.
إسرائيل بدخولها على خط المواجهة ضد الحشد الشعبي، توفر لهذه المليشيات، فرصة الادعاء بأنها ركن ركين في "جبهة المقاومة والممانعة" ضد إسرائيل، وليست مجرد ميليشيا مذهبية، وستساعدها عمليات الجيش الإسرائيلي في إعادة بناء صورتها، بل وكسب تعاطف فئات شعبية من خارج بيئتها المذهبية... وربما ستتاح مجدداً، فرصة الحديث عن إحياء "الجبهة الشرقية" بدل "الهلال الشيعي"، ولكن بوجود إيران هذه المرة في موقع القيادة، بدل العراق، وبتعاطف نسبي من بعض أهل السنة والجماعة كذلك، وليس بالاعتماد على العنصر الشيعي فحسب... وستتخذ هذه العملية شكلاً متسارعاً وعميقاً، إن خرجت الأمور عن سيطرة الحكومة العراقية، وإن نجح الحشد في تنفيذ تهديداته بالرد على الجهات التي استهدفته: إسرائيل أو القوات الأميركية في العراق.
من وجهة نظر الخبراء والمختصين، ليست هناك أية قيمة عسكرية للضربات التي وجهتها إسرائيل ضد أهداف للحشد الشعبي، فما قيمة ضرب مستودع أو تدمير بضع عربات، يجري تعويضها واستبدالها بسرعة قياسية، ومن مصادر عدة، أهمها إيران بالطبع... وبحسابات الربح والخسارة، فإن ما تربحه إسرائيل ماديا من ضرباتها "الغامضة"، هو أقل بكثير مما تخسره بتحويل فئات متزايدة من الشعب العراقي من موقع "الحياد" أو "العداء السلبي" لإسرائيل إلى موقع "العداء الفاعل" لها، وربما انخراط قوى عراقية مباشرة في المواجهة مع إسرائيل حال اندلاعها، وبغطاء شعبي وطني أوسع، ومبررات دفاعية مفهومة.
الأرجح أن ثمة دوافع انتخابية وراء العمليات التي نفذتها إسرائيل في العراق، فنتنياهو يخوض آخر معارك حياته السياسية والشخصية، وهو يبحث عن الفوز بأي ثمن، حتى وإن تطلب الأمر، مقارفة مجازفات من هذا النوع... ثم، إن حكومة اليمين التي يقودها، تبدو شديدة الاطمئنان للدعم غير المشروط، واللامحدود، الذي تتلقاه من إدارة الرئيس دونالد ترامب، وهي تسعى في توظيف هذا الدعم لفرض معادلات جديدة على كل سورية والعراق على حد سواء... وليس مستبعداً في نظر كثير من المراقبين، أن تكون حكومة نتنياهو بصدد استدراج الولايات المتحدة لمواجهة عسكرية أكبر مع إيران، من خلال إشعال فتائل مواجهات أصغر مع فصائل الحشد الشعبي الموالية لها، وهذا هو السيناريو الأكثر خطورة.

أين من هنا؟
ما لم تتدخل الولايات المتحدة بسرعة وقوة، في وضع حد للعمليات العسكرية الإسرائيلية المنتهكة لسيادة العراق وأجوائه، فإن كرة النار قد تكبر وتتدحرج، وليس مستبعداً أن تفضي إلى نتائج وخيمة، تفرض إيقاعها على المواجهة الإيرانية ـ الأميركية، وتعيد العراق من جديد، إلى ساحة الصراع العربي الإسرائيلي، من بوابة الحشد الشعبي الذي قد يتجه لإعادة إنتاج تجربة حزب الله في لبنان... وقد تفضي هذه الاستفزازات إلى إلحاق ضرر جسيم بالعملية السياسية وتوازناتها الهشّة في العراق... فهل هذا ما تريده واشنطن؟ وإلى متى ستظل إسرائيل هي القاطرة التي تجر وراءها السياسات والاستراتيجيات الأميركية في المنطقة؟