جامعة الأزهر.. نموذج لأزمة وطن..د. عبدربه العنزي

السبت 24 أغسطس 2019 07:41 م / بتوقيت القدس +2GMT
جامعة الأزهر.. نموذج لأزمة وطن..د. عبدربه العنزي



كان يُقال –وهو قولٌ راجح- أن الفلسطينيين في سنوات الستينات والسبعينات كانوا مداميك البناء وطلائع النخبة في مؤسسات الدولة الحديثة في بلاد الخليج. ويُقر  المحبون والكارهون أن الفلسطينيين في هذه البلدان وغيرها كانوا صناع  التحضر والتمدن. يميزهم  التفوق والإجادة في كل المهن والأعمال من قمة هرم الدولة حتى أدناها. فلما جاءت أوسلو وعاد من عاد –وهم كثر- من بناة هذه الدول حتى عجزوا في وطنهم عما فعلوه في أوطان الأشقاء.

ويقُال أيضأ: أن نسبة التعليم في فلسطين هي الأعلى عالمياً، بل تتفوق على دول عظمى كالولايات المتحدة الأمريكية، رغم ذلك، فشل الفلسطينيون المتعلمون في كل تجاربهم الحضارية، خصوصاً في ثقافة الحوار واحترام الآخر، وانتكس وعيهم بغرابة وشذوذ حين اختلفوا  وأراقوا دماء بعضهم البعض.

هذه المقدمة مدعاة للتساؤل عن المحركات النفسية والثقافية التي تُصاب بالعطب في تجاربنا الوطنية الخاصة. وتدعو للاستغراب والدهشة عن سر هذا الجمود والعجز والحيرة  في التعايش مع واقع مشكلاتنا وأزماتنا وتفاصيل حياتنا.

جامعة الأزهر أكبر جامعات قطاع غزة، تملك نخبة متميزة وقديرة من الأكاديميين المتميزين، ولكوادرها الأكاديمية مساهمات علمية اقليمية ودولية في العديد من التخصصات، ويحظى خريجوها بتقدير تعليمي متقدم، ورغم ظروفها المالية الصعبة –تاريخياً-  استطاعت أن تسجل باستمرار نجاحات مطردة مقارنةً بظروفها وامكانياتها.

وهي المؤسسة التي تقدم نفسها على أنها حيز ديمقراطي أصيل تقبل بالاختلاف والحوار والمنطق والاعتدال، لكن في لحظة ما نجدها تصطدم بجدار أصم، وتعيش القطيعة والادراك الخاطئ للواقع وعدم القدرة على المواجهة، وتتموضع باعتبارها وجهاً من وجوه الأزمة الفلسطينية العامة. وتغرق في بيئة  تعيسة مشابهة للبيئة الوطنية الفلسطينية التي يُفسد فيها كل نجاح، ويتعطل فيها كل تفوق، ويسقط فيها كل تقدم.

أزمة تغرق فيها جامعة الأزهر، ويترتب عليها  اغلاق أبوابها في وجه طلبتها وتطورها ومستقبلها، وهي أزمة تشتم في رائحتها  فكرة السقوط الفلسطيني الذي نعايشه أكثر من عقدين، السقوط المتطابق في جوهره في الفشل العام للمشروع الوطني برمته. والعجز في إدارة الأزمات بطريقة علمية.

وبدون عناء يمكن لنا أن نرصد معدلات التدهور في حياتنا عموماً، وجامعة الأزهر خصوصاً، ونتبين بوضوح أوجه للمقارنة بين أزمة الوطن وأزمة جامعة الأزهر. وفي المعالجات الاعتباطية للأزمة، مثل: انكارها، وعدم تحديد القوى المسببة والمحركة لها، أو تغيير اتجاهاتها، أو التقديرات الخاطئة لأسبابها.

ولو بدأنا في المرجعيات القانونية باعتبارها الإطار الناظم قانونياً لمسارات الفعل والإنجاز والمسموح والممنوع، وبالإشارة إلى المرجعية العليا في حالة جامعة الأزهر، فلن تجد مرجعية قانونية ثابتة ومؤصلة تؤول إليها الاختلافات، وتفصل في قضايا الحق والواجب، فلو افترضنا أن مجلس الأمناء هو الإطار المرجعي، فهو في غالب أمره وفي كل سنوات خبرته، افتقد إلى الاختيار السليم، وإلى الشفافية، والكفاءة، وفي غالب تجاربه اقتصر الاجتهاد والعمل على البعض القليل، وعلى الكثير المستفيد، فضلاً عن أن قرارات تكليفه يكتنفه الشك والريبة.

هذه المرجعية باستمرار سبب في المشكلة، ولم تكن باباً للحل، وهي كذلك في أزمة الجامعة الراهنة، وهو أمر يدعو لضرورة مراجعة عمل هذه المرجعية في اختيارها وعملها واعتماد وصفاً محدداً لدورها الذي ينبغي ألا تتجاوزه.

ما يطفو على السطح في مشهد الجامعة يشير أن قدراً من العنف تم استخدامه –اللفظي المعنوي أو الجسدي- وهو ما يعني أن أطراف الأزمة –وهم نخبة- لم يتمكنوا من تجاوز أزمة العقل السياسي والاجتماعي الفلسطيني التقليدي الذي يلجأ للقوة والعنف حين يفشل الاتفاق. وهو ما جعل –في العموم- فلسطين ومشروعها التحريري والتنويري –على كافة الصعد-  ضحية للفاعلين السياسيين والحزبيين والمتناحرين والمتاجرين بالشعارات.

ما يشهده الأزهر ليس أزمة طارئة، فالمشهد يمنح المتأمل اسقاط للحالة الوطنية الفاشلة، فالأزمة تشهد تعدد في الأطراف الفاعلة، فهناك أطراف مباشرة، وهناك أطراف غير مباشرة، ويتداخل في الأزمة خليط من المركبات المعقدة، ونمط متغير للتحالفات، فانقسام فتح التنظيمي حاضر وبقوة، وحالة الانقسام الفلسطينية حاضرة وبقوة، الانتهازيون حاضرون وبقوة، وأصحاب النفوذ حاضرون وبقوة، والمستفيدون من الأزمة حاضرون وبقوة، المضللون حاضرون، والخبثاء حاضرون. هذا الخليط يُنبىء بأن الأزمة عميقة، تشبه حالة الوطن المتمزق، الغارق في مصيبته. وبدون أمل. وأختلف مع الذين يرون أن المشكلة محددة وواضحة، فلو كانت كذلك لكان حلها سهلاً ويسيراً، لكن تداخل الأسباب الداخلية والخارجية، التنظيمية والسياسية، والذاتية والموضوعية، والانقسام وأخوته، وفتح بشرعيتها ودحلانها، كلها جزئيات أصيلة من حالة الأزمة الراهنة.

يظل السؤال المطروح –الشبيه بسؤال الوطن ككل- من المسؤول عما وصلت إليه الأوضاع في جامعة الأزهر. هل فعلاً أن كل هذه الأزمة تتعلق بشخص رئيس الجامعة الذي تم التجديد له؟ أم أنها محاولة لإصلاح منظومة العمل ككل في الجامعة؟ أم هي تصفية حسابات حركية فتحاوية؟ أم كونها ردة فعل تراكمية لإشكاليات كثيرة وجاءت لحظة الغضب القاسي؟

في تقديري، أن الأزمة مركبة، لكن ما أجزم به أن السبب الأكبر في هذه الأزمة هي غياب المعايير. غياب المعايير في اختيار مجالس الأمناء، وفي مجالس الجامعة، والتعيينات، وازدواجية السلوك الإداري، والتدخلات الخارجية، والاصطفافات الفئوية الداخلية، وتصفية الحسابات الحزبية، والشخصانية، وعدم احترام النظم الضابطة لعمل المؤسسة، والمحاباة.. الخ.

غياب المعايير هي من أوصلت أن تقف نقابة العاملين –في غياب آخر للمعايير- على أبواب الجامعة ليمنعوا بالقوة  الطلبة من دخول الحرم الجامعي. فكل المقدمات الخاطئة قادت إلى النتائج الكارثية هذه.

أعتقد أنني أرى صورة الوطن الكبير الموجوع  بالفشل، في هذه الجامعة العظيمة  الحبيبة الموجوعة بنا وبسببنا.

وأظن أن هذه الجامعة رغم كل ذلك، تشبه الوطن، تتوجع، لكنها لا تموت. وأن الأدعياء لن يستمروا في تضليلهم، فسقوطهم قريب.