صحيح أنَّ الاغتيالات وتصفية قادة الانتفاضة بدأت في عهد ايهود براك عندما شغل منصب رئيس الوزراء إلا أنها تحولت إلى روتين في عهد شارون، ذلك أنَّ حقيقة أنَّ كل اغتيال بحاجة لمصادقته شخصيًّا عليها حولته إلى الشخصية المركزية في إشاعة استخدامها.
أرئيل شارون أحب معرفة أدق التفاصيل عن المستهدف بالاغتيال، وكيف سيتم اغتياله ومكان الاغتيال، وكان هذا إعادة إلى أيام مجده في وحدة المظليين.
وجد شارون شريكًا وحليفًا في هذا الطريق تمثل في افي ديختر رئيس جهاز الأمن العام "الشاباك" الذي تحول إلى مكمل لشارون بشكل مثالي.
افي ديختر خريج وحدة الاغتيالات المختارة "سيرت متكال" والذي يتقن اللغة العربية بطلاقة والمطَّلع على المواد السرية، نجح في الاقتراب من شارون وحظي بثقته، وهو ما جعله يعتمد على توصياته.
ديختر يقول: إنّ شارون تأثر جدًّا من الخيال الجامح لضباط الشاباك أثناء تنفيذ الاغتيالات، حيث كانت ملامح وجهه تتقد انفعالاً كلما عرضنا عليه خطة للمصادقة على تصفية قيادي فلسطيني.
بقدر اهتمام شارون بالطريقة وأساليب الاغتيال كان أيضًا مهتمًا بالنتائج التي ستحققها الاغتيالات؛ لأنه آمن أنها أسلوب رادع لكلّ من يفكّر في المسّ بأمن إسرائيل؛ لذا وبدل اغتيال من عدّه قنبلة موقوتة أو في طريقه لتنفيذ عملية، وسّع مع ديختر الدائرة، لتشمل من يخطط، وكل من يقف خلف "الإرهاب".
الاغتيال الأول نّفذ في شهر نوفمبر 2000، ستة شهور من تسلم افي ديختر لمهمة رئاسة الشاباك، وبعد أيام من اندلاع الانتفاضة الثانية عندما حلَّقت طائرتا أباتشي في سماء مدينة بيت لحم وأطلقت صواريخها باتجاه سيارة حسين عبيات قائد تنظيم فتح في المدينة والمسؤول عن الخلايا التي كانت تطلق النار صوب حي جيلو الاستيطاني في القدس، حيث قُتل هو ومعه امرأتان كانتا في سيارة الميتسوبيشي التي احترقت بالكامل.
قائد المنطقة الوسطى يتسحاق ايتان قال بعد الاغتيال: إنّ إسرائيل لن تقف مكتوفة الأيدي أمام محاولات المس بها وبمواطنيها، وإنّ هذه الخطوة ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة.
هذا التصريح عُدَّ تدشينًا لعهد الاغتيالات التي تحولت إلى الأداة التي اتسع نطاق استخدامها بسبب التقارب بين الشاباك وسلاح الجو الذي وصل إلى مرحلة أقيمت فيها غرفة عمليات مشتركة من أجل تقصير المدة ما بين التقرير الذي يصل من العميل على الأرض، وما بين انطلاق الصاروخ وإصابته للهدف الذي أبلغ عنه.
دمج المعلومات النوعية التي يقدمها الشاباك والتكنولوجيا التي يمتلكها سلاج الجو جعل الاغتيالات أنجح.
الهدف التالي للشاباك كان رائد الكرمي الناشط في تنظيم فتح في طولكرم والذي عُدّ من كبار المطلوبين، بسبب شجاعته والكاريزما التي يتمتع بها وأيضًا قسوته تجاه الإسرائيليين.
الكرمي كان مسؤولاً عن الكثير من العمليات التي خرجت من طولكرم، ومن بينها إطلاق النار، فقُتل عاملا المطعم موتي ديان واتجار زيتوني من مسافة صفر أثناء وجودهما في مطعم في طولكرم.
طلبت إسرائيل من السلطة اعتقال قتلة المستوطنين، ومن بينهم الكرمي، وهو ما قامت به، حيث سُجن في رام الله إلى أن بلع قطعة حديد نقل على إثرها للمستشفى، ومن هناك نجح في الفرار والعودة إلى طولكرم؛ ليجدد نشاطه ضد إسرائيل بوتيرة أسرع.
بداية العام 2001، قام هو ورفاقه في التنظيم بسلسلة عملية ضد أهداف إسرائيلية أدت إلى مقتل 12 جنديًّا ومستوطنًا لدرجة أنَّ مسؤولي السلطة الفلسطينية ورؤساء الأجهزة الأمنية نظروا إليه بإكبار واحترام.
الشاباك أصدر حكم الإعدام ضد الكرمي وقرر اغتياله بأسرع وقت ممكن، وفي الفرصة الأولى التي سنحت أرسل طائرة أباتشي أطلقت صاروخًا على سيارة الجيب التي كان يستقلها، هو ومعه اثنين من قادة التنظيم، إلا أنه تمكّن من الهرب من الجيب في اللحظات الأخيرة بعد أن أصاب الصاروخ السيارة، وقبل أن يصلها الصاروخ القاتل الثاني.
رغم أنَّ الكرمي أصيب بجروح خطيرة جراء المحاولة، وقُتل زميلاه في السيارة والتنظيم، إلا أنه قرر مواصلة العمل وفي نفس اليوم قرر رفاقه في التنظيم الرد على محاولة الاغتيال، فقاموا بإطلاق النار على سيارة إسرائيلية، وقتلوا ضابطًا إسرائيليًّا وأصابوا صديقته، وهما في طريقهما إلى حفل زفاف.
ملاحقة الشاباك للكرمي تحوّلت إلى ثأر شخصي، وحساب مفتوح ،وما أن وصلت معلومة أنَّ الكرمي موجود في بيت مع أفراد عائلته، اقتحمت قوة كبيرة من جيش الاحتلال مدينة طولكرم بهدف تصفيته إلا أنَّ الحظ لعب لصالحه واستطاع الهرب، وهو ما حوله إلى أسطورة في نظر الشارع الفلسطيني، وليس في طولكرم فقط.
تصدر الكرمي رأس قائمة المطلوبين لدى الشاباك، ليس لأنه نجح في الإفلات من الموت أكثر من مرة، بل لأنه أطل برأسه من مخبأه فقط، كي ينفذ عمليات وإيقاع مزيد من الخسائر في الجانب الإسرائيلي.
في نهاية 2001، نجح عملاء الشاباك في الوصول إليه وتضييق الخناق حوله، حيث تبيّن أنَّ لديه صديقة يزورها بين الحين والآخر، وفي ساعات الظهيرة تحديدًا، وأنَّ زياراته تتكرر في نفس الوقت كلّ مرة.
وسائل المراقبة المختلفة التي كان يستخدمها الشاباك أثناء مطاردته للكرمي بيّنت أنه يسير دومًا بمحاذاة الجدران؛ كي لا ترصده الطائرات أو يميزه العملاء الذين انتشروا في كل مكان لرصد كل حركة من حركاته.
الشاباك أعد الخطة في مكاتبه، ومن قبل خيرة ضباطه لاغتيال الكرمي، ولكن المنطقة بالمقابل شهدت تغيرات سياسية كبيرة حيث مارس الأمريكيون والأوروبيون على الفلسطينيين والإسرائيليين ضغوطات كبيرة من أجل وقف دوامة العنف، وهو ما دفع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات إلى الدعوة في خطاب أعده خصيصًا، ووجهه وألقاه باللغة العربية للجمهور الفلسطيني إلى وقف الانتفاضة، وهو ما أدى إلى وقف العمليات بشكل فعلي على الأرض.
على الأرض ساد نوع من وقف إطلاق النار تضمن وقف الاغتيالات من جانب إسرائيل دعمها قائد تنظيم فتح الميداني مروان البرغوثي الذي بعث برسائل لقادة كتائب شهداء الأقصى باسم الرئيس توضح مدى جدية الخطوة مطالبًا الالتزام بوقف العمليات، واضطر إلى الحديث مباشرة مع الكرمي الذي رغم رغبته في مواصلة العمليات التزم بتعليمات الرئيس وتعهد بعدم القيام بأي عمل ضد إسرائيل.
رغم وقف إطلاق النار والتزام الكرمي به وعدم قيامه بأي نشاط، إلا أنَّ الشاباك واصل تعقب الكرمي، وثارت خلافات في أوساط قادة أجهزة الأمن حول ضرورة تصفيته، حيث اعتقد قائد المنطقة الوسطى يتسحاق ايتان والعميد جيورا ايلند أنَّ اغتياله في ظل الظروف الجديدة خطأ فادح، وسيعني انهيار وقف إطلاق النار، وتجدد العمليات، بينما اعتقد رئيس الشاباك افي ديختر وبقيه ضباط الشاباك أنه يجب اغتيال الكرمي متى سنحت الفرصة بذلك بغض النظر عن الظروف السياسية.
تمسك الشاباك برأيه وأصرّ على موقفه، وفي النقاش الأسبوعي الذي يعقده وزير الجيش طلبوا الإذن في اغتيال الكرمي، وهو ما استجاب له وأعطاه شارون دون تردد، حيث لم يطرح موضوع رد الفعل وتجدد العمليات رغم علمهم الأكيد أنه التزم وزملاءه بوقف العمليات.
أجهزة الأمن احتارت في كيفية تصفية الكرمي حيث عرض يوفال ديسكين أحد قادة الشاباك على زملاءه فكرة ألا يتم الاغتيال بواسطة صاروخ من أجل عدم اتهام إسرائيل، بل بواسطة عبوة توضع في الجدران التي اعتاد الكرمي أن يمر بمحاذاتها، وأن يسير بشكل ملاصق لها، وهو ما سيوفّر لإسرائيل فرصة التنصل من الاغتيال وعدم اتهامها بخرق وقف إطلاق النار.
في صباح 14-1-2002 خرج الكرمي من مخبأه وتوجه إلى بيت صديقته، وكعادته سار بشكل ملاصق للجدران في الأزقة المؤدية إلى البيت، حيث انفجرت العبوة الضخمة التي زرعت في الجدار وأدت إلى مقتل الكرمي على الفور.
أحد الفلسطينيين قال لاحقًا: إنّ طائرة أباتشي كانت تحلّق في الأجواء، وأنها هي التي فجرت العبوة التي زرعت في جدار المقبرة المسيحية القريبة عن بعد.
عملية الاغتيال سجلت كإنجاز ونجاح عملياتي للشاباك، ولكنها لم تترجم إلى إنجاز سياسي أو أمني، بل على العكس من ذلك؛ لأن الفلسطينيين لم يقبلوا الرواية الإسرائيلية وانكارها صلتها بالاغتيال، والشارع طالب بالانتقام والرد على القتل بالقتل والهدم بالهدم وإلغاء وقف إطلاق النار الذي وصف بالمهين.
ثلاثة أيام على الاغتيال، كانت كفيلة بأن يتحقق السيناريو الأسوأ، حيث قامت كتائب شهداء الأقصى بالانتقام وإرسال أحد رجال الكرمي الذي نجح في التسلل إلى حفل بلوغ في الخضيرة وقتل ستة إسرائيليين؛ ليتبعها قيام حركة فتح بأولى عملياتها الاستشهادية في شارع يافا في القدس المحتلة، وهي العملية التي أودت بحياة اثنين وجرحت 38.
إسرائيل أدخلت بهذا الاغتيال التنظيم العسكري الأكبر التابع لحركة فتح إلى دائرة العمليات الاستشهادية، وجعلت معظم الشارع الفلسطيني يؤيد عودة العمليات والعودة إلى العنف.
خلال شهر مارس من العام 2002، والذي حظي بلقب مارس الأسود نفذت ضد إسرائيل 47 عملية، بينهما 11 عملية استشهادية التي عدّت العملية التي وقعت عشية رأس السنة العبرية في فندق بارك في نتانيا الأكثر إيلامًا فيها، حيث بلغ عدد القتلى 82 قتيلاً وهي التي قادت إلى اتخاذ قرار اجتياح الضفة الغربية، وما عرف بالسور الواقي.
اغتيال الكرمي عُدّ العامل الأساسي في تفجر الأوضاع في الضفة من جديد، بسبب عمليات الانتقام التي جرّها على إسرائيل.
انتقادات واسعة وجهت داخل إسرائيل لأرئيل شارون رئيس الوزراء في حينها، وإلى وزير الجيش بن اليعيزر ورئيس الشاباك افي ديختر من قبل وسائل الإعلام وأعضاء كنيست، وهو ما أثار علامات سؤال حول سياسة الاغتيالات والجدوى من وراء انتهاجها انطلاقًا من اغتيال الكرمي، وما تبعه من موجة انتقام غير مسبوقة.
هاجم عضو الكنيست يوسي ساريد في اجتماع لجنة الخارجية والأمن الاغتيال، متهمًا حكومة إسرائيل بتشجيع الإرهاب، وأنها هي من يتحمل مسؤولية مقتل عشرات الإسرائيليين في الأيام التي أعقبت الاغتيال، مضيفًا أنهم كانوا سيكونون أحياء الآن بيننا، لولا قرار اغتيال الكرمي.
أعضاء كبار في الشاباك انضموا لموجة الانتقادات، وقاموا بخطوة نادرة في الجهاز، وهي طلب الاجتماع مع افي ديختر وإسماعه انتقاداتهم شديدة اللهجة على القرار، حيث قال عامي ايلون في اللقاء إنه قلق جدًّا من هذه السياسة، معتبرًا أنَّ قرار اغتيال الكرمي خاطئ؛ لأنه حدث في فترة وقف إطلاق للنار، وفي الوقت الذي كانت إسرائيل تعرف أن كل المنظومة القيادية في فتح والسلطة قررت إعطاء فرصة للجهود السياسية، وأوقفت فعليًّا العمليات، وهو ما تبدد كليًّا بعد الاغتيال.
رئيس الشاباك السابق كرمي جيلون انضم للمنتقدين، وعبر عن عدم رضاه من القرار، ومن التوقيت دون أن يشكك في أنَّ الكرمي يستحق التصفية، ولكن التوقيت السيئ أعاد الانتفاضة وبصورة أقوى من السابق، وأدخلت فتح في دائرة العمليات الاستشهادية، وإسرائيل هي التي دفعت ثمن هذا الخطأ في النهاية.
رئيس الشاباك وصاحب نظرية الاغتيالات والذي حولها إلى نهج في الانتفاضة الثانية افي ديختر لم يتأثر من موجة النقد، ولا اتفق معها، بل رد بغضب:
إنَّ رؤساء الشاباك الذي طلبوا الاجتماع بي جاءوا وهم يحملون حقيقة أخذوها من وسائل الإعلام ورجال السياسة، دون أن يكون لأيّ واحد منهم صلة بالأجواء والمعلومات عن قرب، ديختر قال: إنه يعرف عمله أكثر من أيّ واحد منهم؛ لأنه هو الأقرب للصورة الحقيقية، أو كما صفها وشبه أنه يراها على ارتفاع خطوط المجاري في مخيم بلاطة، مشددًا أنَّ القانون الأساسي في محاربة "الإرهاب" هو أنَّ تنفذ متى سنحت لك الفرصة لذلك، وإنه لا منطق يمكن أن يحكم هذه الحرب، او اعتبار سوى منطق الفرصة السانحة عسكريًّا، عادًا أنَّ الكرمي نفذ العمليات عندما سنحت له الفرصة، وأنه غير نادم على قرار اغتياله، وأنّ مسألة التوقيت تخضع فقط لاعتبار واحد، هو تهيئ الفرصة على الأرض.