في تلك الأثناء، كان يعقوب بيري في الثلاثين من عمره، والمسؤول عن قسم إحباط المؤامرات السياسية في الشاباك في القدس في 6/8/1975، وبعد ثلاثة شهور من التحقيق في قضية قذائف الكاتيوشا، تمّ استدعاؤه إلى بيت والدة ضابط كبير في الشاباك؛ ليجد هناك إلى جانب الضابط الكبير أحد أخطر عملاء الشاباك من الفلسطينيين، ويلقب (تورن).
تورن من سكان جبل المكبر، ويعمل مدرّسًا، انضمّ إلى الشاباك عن قناعة، والتزام عميق، وهناك روايتان حول تجنيده، الأولى تقول: إنّه أصيب في حادث طرق، وأثناء العلاج تبيّن أنّ فصيلة دمه نادرة جدًّا، المستشفى اضطر إلى أخذ دم من جندي يهودي من الجيش الإسرائيلي بعد أن عجز عن إيجاد فصيلة دم تطابق فصيلة دمه، وهذا ما جعله يشعر أنّه مدين لإسرائيل، وهذا ما دفعه إلى أن يتطوع للعمل لصالح الشاباك.
أما الرواية الثانية، فتقول: إنه أصيب في حادث، وإنّ طبيبة يهودية أنقذت حياته.
الشاباك حوَّل تورن لعميل مرسل، أي أنّه أُرسل كي يخترق التنظيمات التي تطوّع للعمل في صفوفها؛ ليتبيّن أنه تحول إلى قصة نجاح؛ لأنّه امتاز بكونه مخلصًا وصامتًا، ويستطيع ضبط أعصابه، والأهم أنه صاحب موهبة فريدة في التقرب من الناس، وكسب ثقتهم، بالإضافة إلى ذاكرته الموسوعية وسحره الشخصي، رغم أنّه كان مغامرًا في بعض الأحيان ومراوغًا.
بهدف إثارة انطباع الفصائل ألصق به الشاباك تهمة المسؤولية عن العمليتين اللتين وقعتا في القدس، وهما إحراق مصنع، والمسؤولية عن عبوة وُجِدت في المدينة، بحيث استطاع من خلال المعلومات التي زوّده بها الشاباك عن العمليتين أن يدَّعي أمام الآخرين أنّه منفذهما، وأن يطير إلى بيروت للانضمام إلى حركة فتح.
توران نجح في التقرُّب من أبو فراس الذي عينه مسؤولاً عن استلام وتخزين وتهريب السلاح إلى الضفة الغربية، وكلف بمهمة التنقل بين الأردن والضفة الغربية، حيث كان يسلّم الشاباك ولمدة سنوات طويلة، تقارير مفصلة عن دفعات السلاح التي تسلّمها ومكانها الذي دفنت فيه، والموعد الذي كان على الخلايا أن تأخذها فيه.
هكذا أصبح المسؤول عن إدخال السلاح إلى الضفة عميل لدينا، يقول أحد الضباط في الشاباك.
عملُ التوران انتظم بشكل جيد، وهو الذي جلس في غرفة الضابط في السادس من آب، وسلّمه المعلومة المثيرة.
لتوِّه كان قادمًا من دمشق، حيث اجتاز دورة تدريب مع أبو فراس، وجمع معلومات عن إرسالية السلاح، قام بسردها مطولاً لضابط الشاباك الذي شعر أنّه يخفي عنه شيئًا.
الضابط ضغط عليه، فقال له: أخشى ألا تعالجوا الموضوع بحذر؛ لأنني عندها سأكشف.
الضابط نجح في إقناعه بأخباره بكلّ ما يعرف، عندها قال له: إن هناك كمية كبيرة من السلاح الخطير موجودة في القدس، وإن فيها كمية متفجرات قادرة على تفجير الكنيست، والكمية قد تصل إلى 170 كيلوغرام متفجرات من نوع (ار دي اكس).
الضابط صدم من المعلومة، ولكنه لم يظهر صدمته للعميل؛ لأن الشاباك تعوَّد ألا يُظهر ردَّ فعله، مهما كانت أمام العملاء، ولكنه خرج إلى غرفة جانبية، واتصل بالمسؤول عنه، وطلب حضوره فورًا.
العميل أعاد الرواية، أمام يعقوب بيري، وقال له: إنّ أبو فراس أخذه إلى أحد أحياء دمشق، وإنهم قاما سويًّا بتحميل سيارة مرسيدس سوداء جديدة بشحنة ضخمة من المتفجرات والأسلحة.
العميل قال: إنّه شاهد كيف تمَّ توزيع السلاح والرشاشات والمسدسات والمتفجرات والذخيرة وأنظمة التشغيل في داخلها، وكيف كلَّفه أبو فراس أن يرافق الخبراء، وأن يدخل إلى الضفة بأسرع وقت؛ لأنّ السيارة ستصل القدس قريبًا، ولأنه هو المكلف بإفراغها من السلاح، وإيصاله إلى الخلايا، وإنّ صاحب السيارة لديه كراج مغلق سينتظر فيه وصول العميل لاستلامها.
كابوتشي في قبضة الشاباك
العميل قال كلّ شيء ليعقوب بيري، وقال المعلومة الأهم التي كان ينتظرها بيري، وهي من هو صاحب السيارة.
بيري أصيب بالصدمة عندما سمع اسم المطران كابوتشي.
قادة الشاباك عرفوا جيدًا المطران هيلاريون كابوتشي، فهو شخصية مرموقة ومحترمة في أوساط السلك الديني المسيحي في الشرق الأوسط أجمع، وهو ممثل بطريرك الروم الكاثوليك.
كابوتشي من مواليد حلب في سوريا لعائلة فقيرة بالكاد تملك قوت يومها الذي تؤمنه من عمل الأب في غزل الحرير، بعد انتهاء فترة تعليمة في الدير واستكمال تعليمه في لبنان أصبح من المرجعيات العليا في الطائفة.
كابوتشي لم يكن رجل دين مهمًّا فقط، بل أيضًا امتلك شخصية ساحرة ومثيرة للانطباع، رجل طويل مع ذقن سوداء، ومحب للحياة، بل إن هناك روايات عن حبه للنساء، وفوق ذلك عرف بأفكاره القومية المتشددة، حيث وقع على أكثر من عريضة ضد إسرائيل وداعمة للقضية الفلسطينية، وأطلق تصريحات ضد سياسة إسرائيل في الأراضي المحتلة، ولكنه في الوقت نفسه كان مقربًا من الحكومة الإسرائيلية، وقام بأكثر من مهمة كلفه بها موشي ساسون مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي للشؤون العربية للتوسط، وحمل رسائل من الحكومة الإسرائيلية، ومن بينها انه سافر مرتين الى الأردن، وحمل رسائل الى الملك حسين، ومع ذلك ساسون لم يكن يثق فيه.
هل يُعقل أنّ الشخص ذاته الذي يعدّ مطرانًا محترمًا، ويحظى بتقدير كبير، هو نفسه الذي يقوم بتهريب الأسلحة؟
يعقوب بيري أوصل المعلومة لرئيس الشاباك يوسف هيلرمان الذي قرر أن يوصلها لرئيس الوزراء إسحاق رابين.
رابين كان حذرًا جدًّا ووافق على اعتقال المطران في حالة واحدة فقط، إذا ما ثبت بما لا يدع مجالاً للشكّ أنه هو فعلاً الذي يقوم بالتهريب؛ لأنه كما قال لن يحتمل انتقادات المجتمع الدولي لاعتقال رجل دين بمكانة كابوتشي دون تهمة.
في اليوم التالي مرَّ كابوتشي في سيارته المليئة بالمتفجرات عبر جسر الملك حسين متجهًا إلى القدس، أوقف السيارة قرب الكنيسة، وكان عضوان من الشاباك مزودان بكاميرات تصوير حاموا حولها متنكرين بزي سياح أجانب، وقاموا بالتقاط الصور مع السيارة المتوقفة في الكراج.
فحص الصور أكد أن السيارة أثقل مما يجب، وأن عجلاتها هابطة.
خرج كابوتشي بالسيارة إلى بيت حنينا، وفي هذه الأثناء طلب الشاباك من العميل (التوران) الاتصال بكابوتشي وتحديد موعد لتفريغ الحمولة التي في داخل السيارة والتي أحضرها من دمشق.
قبل موعد اللقاء المتفق عليه، وفي 8 آب خرج كابوتشي في السيارة إلى شوارع القدس، كان يقودها بسرعة كبيرة.
الشاباك الذي كان يراقبه خشوا من أن يحدث شيء، وتنفجر المواد المكدسة في داخلها؛ لذا اتصلوا بقادتهم الذين اتصلوا هم أيضًا برئيس الشاباك الذي أمر بوقف السيارة فورًا.
أعضاء الشاباك تنكروا بزي شرطة، وقطعوا الطريق أمام السيارة، فحصوا وثائقها، واتهموه أنه كان يقود بسرعة أكثر من المسموح بها.
كابوتشي طلب أن يتحدث مع قائد الشرطة الذي يفترض أن يعرف من يكون كابوتشي، ولكن أحد أفراد الشابك فتح الباب، وأغلقه، وكأنه يفحص السيارة ليتبيّن إن كانت ما زالت مليئة بالمتفجرات، وهو ما تأكد من ثقل الباب.
احضرت المرسيدس السوداء إلى كراج الشرطة في المسكوبية، بينما طلب من المطران أن يجلس بهدوء على كرسي في وضع من أجله.
خبراء المتفجرات بدأوا في تفكيك السيارة والمطران أدرك أنّ هناك أمرًا سيِّئًا، وبدأ يفقد ثقته بنفسه، ويداه ارتعشت، وهو يشعل سيجاره قبل أن يخرج الخبراء أول قطعتي سلاح من نوع كلشن كوف من الباب، وبعدها أخرجوا مسدسين وكيس ذخيرة ومخازنًا، ومن الجناح الأيمن للسيارة خمس قنابل، وسبع قطع سلاح، و7 كيلو متفجرات من نوع (ار دي اكس) و10 كيلو سمتكس.
عملية إفراغ السيارة استمرّت أربع ساعات متواصلة، وإخراج السلاح والمتفجرات تمَّ أمام نظر المطران الذي أخذ بعدها للتحقيق لدى رئيس قسم التحقيقات الأسطوري فيكتور كوهين.
في أقبية التحقيق توجه فيكتور للمطران بأدب وطلب منه الجلوس، قدم له قهوة وسجائر، وتحدَّث معه باللغة الفرنسية، ولكن بلهجة حازمة:
أنت رجل دين محترم، ولك تقدير كبير، ولكن بعملك هذا أنت لا تختلف عن أيّ (مخرب)، والسلاح الذي أحضرته معك في سيارتك كان سيقتل آلاف الأشخاص.
كابوتشي حاول الانكار، وادعى أنه لا يعرف عن المتفجرات التي وضعت في سيارته، ولكنه في النهاية اعترف بأنه نقلها لرجال أبو فراس في الضفة الغربية المحتلة.
كابوتشي اعترف أيضًا أنّ هذه ليست المرة الوحيدة التي ينقل فيها سلاحًا لحركة فتح في الضفة المحتلة، ومن بينها الأسلحة التي استخدمها الإخوة الملاعبي.
فيكتور كوهين ويعقوب بيري عرضا على كابوتشي أن يعمل معهما بشكل مزدوج، وأن يواصل كأنه لم يضبط؛ من أجل الإيقاع برجال فتح الذين يشغلهم أبو فراس وأبو جهاد في الضفة.
كابوتشي وافق، وتمَّ تحريره، وأخذ معه شنطة تحتوي على متفجرات مزيّفة لإيصالها إلى الخلايا التي يفترض أن بينها نقاط اتصال سرية، وهذا ما تمَّ بالفعل، حيث نجحت العملية، ولكن مع ذلك لم يثق الشاباك بكابوتشي الذي اعتقدوا أنه يتحايل عليهم؛ كي يكسب مزيدًا من الوقت ويهرب خارج البلاد، لذا تمّ اعتقاله من جديد، وحكم عليه بالسجن 12 عامًا؛ ولكنه تحرر بعد ثلاث سنوات فقط، بناء على طلب شخصي من البابا بولص الثالث.
رغم تعهده بعدم العودة للنشاط السياسي، إلا أنه وبعد تحرره مباشرة، ومن أوروبا هذه المرة التي نقل إليها واصل إرسال الأسهم المسمومة ضد إسرائيل، وتم انتخابه عضوًا في المجلس الوطني الفلسطيني، وانتظم في صفوف المنظمة لسنوات طويلة، وكان أحد القادمين على ظهر السفينة التركية مرمرة التي أرسلت لكسر الحصار عن غزة في عام 2017.
كابوتشي توفي عن عمر 95 عامًا في روما في العام 2017.
التوران أو العميل الذي أدى إلى اعتقال كابوتشي، لم يعش طويلاً، حيث واصل خدمة الشاباك بعدها لمدة16 عامًا دون أن يكشف إلى أن قُتل على يد ناشطين اثنين من حركة فتح في عام 1990، عندما أرادا أن يحققا معه، ولكنه رفض واستطاع أن يتعرف على أحداهما، وهو ما اضطرهما إلى قتله طعنًا بالسكاكين؛ لينهي سيرة طويلة من خدمة الشاباك، ويبقى أحد أهم عملائه في تلك الفترة.
ترجمة " الحدث