تنشر وكالة "سما" الخطاب التاريخي الذي القاه الزعيم الخالد جمال عبد الناصر في غزة اثناء زيارته للقطاع :
كل عام وأنتم بخير.. لقد جئت هنا أخر مرة بعد حادث ٢٨ فبراير سنة ١٩٥٥ مباشرة، وأنا أقارن بين ظروف تلك الزيارة وبين زيارتى لكم هذه المرة، وأقول الحمد لله أننا اليوم أرسخ قدماً، وأصلب عوداً، وأكثر استعداداً، وأرجو أن يستمر التوفيق حليفنا، وأتمنى أن تكون زيارتى القادمة لكم فى ظروف تحمل معها تباشير النجاح لقضيتنا الكبيرة. إننى أطلب منكم - يا أهل غزة - ثلاثة أشياء: الأمل، والصبر، والإيمان. إن الأمل والصبر والإيمان هى طريقكم إلى الانتصار على جميع القوى التى تتآمر ضدكم.وانتم اشرف الناس واطهرهم إننى أريدكم أن تعرفوا حقيقة هامة وهى أن نظرتى إلى غزة هى نظرتى إلى مصر، وما يصيب غزة يصيب مصر،وما يوجه إلى غزة يوجه إلى مصر. والله يوفقنا جميعاً إلى خير الأمة العربية.
كلمة الرئيس فى الفدائيين
لقد أثبتم بالتجربة أنكم رجال يستطيع وطنهم أن يعتمد عليهم، إن الروح التى دخلتم بها أرض العدو يجب أن تسرى وأن تنتشر، فلقد أحست الدنيا كلها بأعمالكم، وأهم من ذلك كله أحس العدو بوطأتكم عليه، وعرف إلى أى مدى تستطيع قلوبكم أن تمتلئ بالشجاعة والعزم.
كلمة فى مستشفى غزة
إنكم تقومون هنا بعمل خطير.. إنكم فى تصورى تعطون بلادكم القيمة التى تستحقها بين بلاد الدنيا بعملكم هنا، إن كل واحد منكم هنا فى موقعه إنما يعمل لمصر كلها، بل إن مصر كلها هى الأساس فى وقعه فى موقفه وليس الموقع فى حد ذاته، ذلك هو الواجب الأول. إن هذا الجيل من شعب مصر على موعد مع القدر، لقد ألقيت عليه مسئولية بناء الأساس الذى سيقوم عليه المستقبل. إذا صورت لكم الموقف بالأسلوب العسكرى فإنكم تعلمون أنه فى أى زحف إلى هدف تكون هناك دائماً قوة متقدمة وقوة ساترة؛ أى تتولى حماية القوة المتقدمة بالنيران. إن الجيش هو القوة السائرة لتقدم الوطن، إن مسئولية هذا الجيش هى أخطر مسئولية ألقيت على قوة مسلحة فى تاريخ مصر. والحمد لله إن هذا الجيش أصبح قوة ينظر إليها بعين الاحترام، وأكاد أقول الخوف، وليست هذه نظرة إسرائيل وحدها إليه؛ إنما هى نظرة غيرها إليه. كذلك إن هذا الجيش هو العامل الجديد الذى ظهر فى المنطقة، وهو القوة الحقيقية التى تستطيع أن تتصدى لكل طامع أو معتدٍ. كلمة فى كتيبة فلسطين عندما كنت هنا منذ عام كانت هناك كتيبة فلسطينية واحدة موجودة فى هذا القطاع، ولقد أثبتت هذه الكتيبة قدرتها، وبدأ عدد الكتائب الفلسطينية يتزايد، واليوم أجىء إليكم وهناك شىء هائل كبير اسمه الجيش الفلسطينى. إنكم تكونون قاعدة جيش فلسطين، وإن مسئوليتكم عميقة فى معناها ودلالتها، وإنى أرجو أن أجىء إلى هنا فى المرة القادمة، ويكون الجيش الفلسطينى قد بنى لنفسه اسماًومجداً وتقاليد تتفق مع عظمة الاسم ومعناه ودلالته.
كلمة فى قيادة الجيش الفلسطينى
إن الجيش الفلسطينى بالنسبة لى كالجيش المصرى سواءً بسواء؛ كلكم يا جنود الجيش الفلسطينى - وكذلك زملاؤكم جنود الجيش المصرى - جنود فى جيش العروبة الكبير. إنى واثق بأن الجيش الفلسطينى سوف يثبت جدارته. إنى أريدكم أن تعرفوا أن كل ما قيل من أن أهل فلسطين لم يحسنوا الدفاع عن وطنهم كلام قصد به الخداع والتضليل؛ لقد جربتكم بنفسى، وأنا أعرف أكثر من غيرى حقيقتكم. إن الذين قاتلوا منكم معى قاتلوا بشرف، والذين ماتوا منكم أمامى ماتوا بشرف. كذلك عرفت أهل فلسطين بنفسى ورأيتهم بعينى، وليس ذنبهم أنه لم يكن فى أيديهم سلاح، وكانت أيدى أعدائهم مليئة به. لقد انتهى ذلك كله الآن، لقد أصبح السلاح فى أيديكم، وأنا واثق أن الجيش الفلسطينى سيكتب باسم فلسطين صفحة مجيدة فى التاريخ.
كلمة فى الجبهة الشرقية
إننى أشعر اليوم وأنا واقف معكم بعد أربع سنوات من قيام الثورة أن كل واحد منكم يفخر بجنديته؛ لقد أصبح معنى الجندية بعد الثورة غير معناها قبل الثورة. إن هناك واجباً خطيراً يقع على عواتقكم - أيها الجنود - وأنا واثق أنكم ستقومون بهذا الواجب. لقد كان أعداء هذا الوطن يواجهون أحقادهم ومؤامراتهم إلى جيش يحاولون إضعافه، ويعملون على أن يكبلوه بقيود العجز حتى لا يستطيع أن يؤدى واجبه. لقد أدرك هؤلاء الأعداء أنه إذا أصبح بمصر جيش قوى، فإن هذا الجيش سيكون العقبة الحقيقية فى طريق مطامعهم. لقد كانوا يهدفون دائماً إلى إضعافنا وإلى إفقادنا ثقتنا بأنفسنا، ولم يخالجنى الشك فى أى وقت من الأوقات - بعد أن تسلح هذا الجيش وقوى - فى أن الذين خلقوا إسرائيل سوف يمدونها بالسلاح. ولقد أعلن فى باريس أمس أن فرنسا سوف تعطى إسرائيل ١٢ طائرة جديدة، وهذا الكلام لا يخيفنا، فلقد كنا نعلم من قبل أننا لا نواجه إسرائيل وحدها؛ وإنما نواجه معها الذين خلقوا إسرائيل. لقد كانوا يريدوننا ضعفاء لا نستطيع أن نعيش إلا فى حمايتهم، يفعلون بنا كما فعلوا من قبل بشعب آخر من شعوبنا كان تحت حمايتهم؛ وهو شعب فلسطين، ولم تفعل له هذه الحماية شيئاً إلا أن تآمرت عليه وحولته إلى شعب من اللاجئين. إن المأساة لن تتكرر، وإننا نعرف واجبنا وسوف نؤديه سواء أعطوا إسرائيل سلاحاً أم لم يعطوها السلاح. إننا نشعر بالثقة فى قوتنا، ونشعر بالثقة بأنفسنا، ونشعر بالثقة فى أهداف كفاحنا، ونحن نعلم حقيقة الأخطار التى تواجهنا. إننى أريد أن تعرفوا أن الوطن العربى كله يأمل فيكم، ويعتبركم درعه الواقية التى تدافع عنه وتحميه.
كلمة فى نادى الضباط
لقد انتهى احتكار السلاح، وأنتم أول من يعرف هذه الحقيقة ويملك فى يده الدليل المادى عليه. لقد أدى الشعب واجبه حيالكم، وانتقلت المسئولية لتقع على عاتق القوات المسلحة. أدى الشعب واجبه لما كافح فى اتجاه مقاومته احتكار السلاح واتخاذه أداة للسيطرة والضغط، ونجح فى كفاحه وحصل على ما كان يريد من سلاح، وأدى الشعب واجبه كذلك لما دفع عن طيب خاطر ثمن هذا السلاح.
وأدى الشعب واجبه هذا وهو يدرك أن قواته المسلحة هى الدرع الواقية لمستقبله وهى الحصن الذى يدافع عن استقلاله. كذلك قالوا: إن الجيش المصرى لن يستطيع أن يهضم كمية السلاح التى حصل عليها ويحسن استخدامها قبل سنين طويلة، وإن إسرائيل سوف تنتهز الفرصة وتشن حرباً وقائية تنهى بها الموقف.
وكانت تلك عقيدة ثابتة من عقائد المتشككين المتآمرين، وأنتم أول من يعرف كيف تهاوت هذه العقيدة هى الأخرى وانهارت من أساسها؛ فقد وصل مستوى التدريب على الأسلحة الجديدة إلى حد لم يكن يخطر ببال أى خبير عسكرى.
إنهم ينسون فى تقديراتهم قيمة العامل الإنسانى والخصائص الكامنة فى أعماق شعبنا، إننى أعرف رجالنا وأعرف المدى الذى يستطيعون الوصول إليه. لقد كان جنودنا فى الكتيبة السادسة - وكنت أحد ضباطها فى حرب فلسطين - يطاردون العدو إلى خارج مواقعهم، فكنا نعثر على جثث بعضهم بعد انتهاء المعارك فى وسط الأرض الحرام، وكان بعضهم من جنود المطابخ والسقائين. وحين وقفنا فى الفالوجا جاء الإسرائيليون وطلبوا منا التسليم. ولما جاء ضابط الاتصال الإسرائيلى يحمل هذه الرسالة كنت أول من قابله فى المنطقة الحرام.
ولما قال لى: إن قواتكم قد انسحبت وأصبحت بعيدة عنكم بتسعين كيلو متراً، قلت له إننا لا نحارب دفاعاً عن موقع وإنما نحارب دفاعاً عن شرف الجيش المصرى، وكنت فى ذلك أعبر عن شعور جميع الضباط والجنود. لم يكن هدفنا أن نحتفظ بقطعة أرض فى موقف يائس يصعب الدفاع فيه؛ وإنما كان هدفنا أن نحتفظ بشرف الجيش المصرى وأن نضع فى تاريخه هذا التقليد؛ ذلك أنهم نسوا العامل الإنسانى فى تقديراتهم.
وهكذا فاجأهم أن تتهاوى عقائدهم وتنهار من أساسها وهم يرون أن الجيش تسلح وهضم سلاحه وتدرب عليه وارتفعت روحه المعنوية. إنكم لا تتصورون مبلغ سعادتى وأنا أرى حماسكم للتدريب وتحملكم لمشاقه ومصاعبه؛ تلك ظاهرة هامة. إنكم تعلمون أن قيمة أية دولة ترتبط ارتباطاً مباشراً بقوتها، بل إن اللغة التى تتكلم بها أية دولة إنما هى تعبر مباشرة عن قدرتها الحقيقية، وأنا أشعر أننا الآن نتكلم بلغة القوة إحساساً منا بقوة جيشنا وقدرته. أريدكم أن تعرفوا أنه ليس هناك عمل ضائع فى الهباء أبداً، حتى حفر الخندق ورفع التراب؛ إن كل عمل مهما بدا صغيراً هو مساهمة فعالة فى بناء الوطن.
لقد استطاعت أعمالكم حتى الآن أن تحقق الكثير، لقد استطعتم فى الشهور الماضية أن تحطموا أخطاراً كانت تبدو للمتآمرين على وطننا عقائد ثابتة. لقد قالوا مثلاً: إن الجيش المصرى لا يستطيع أن يواجه إسرائيل حتى لو تسلح، وقالوا: إن السلاح ليس هو كل شىء وإن التدريب والروح المعنوية العالية هى العوامل الحاسمة للنصر قبل السلاح.
ولم يمض وقت حتى بدأت صحفهم هم - وليست صحفنا نحن - تتحدث عن قوة الروح المعنوية بالجيش المصرى وقوة التدريب فيه، ومضت تنشر الصور والمقالات الضافية، تشرح أن الوضع تغير، وأن عقيدة المتشككين والمتآمرين قد تهاوت وانهارت من أساسها. وظاهرة ثانية لاحظتها من توافر الثقة بينكم؛ لقد كان فينا فى الماضى كثيرون يثق كل منهم بنفسه، ولكن كان ينقصنا أن يكون هناك كثيرون يثق كل منهم فى غيره.
إن تلك كلها عوامل لا تقل أهمية عن السلاح والعتاد، إنى أريد أن أطلب منكم شيئاً هاماً يتصل بهذا المعنى: أريد أن تنقلوا الصورة كلها إلى جنودكم، فأنا أتمنى أن يكون الجيش أداة إرشاد وطنى لجنوده كما هو أداة قتال حربى. إن كل جندى من جنودنا يعرف الآن أن البلد بلده، وأنه إذا حارب فإنما يحارب عن كل شىء عزيز عليه. إن البلد الآن لم يعد ملكاً لفرد، أو ملكاً لطبقة، أو ملكاً لدولة أجنبية، إنه لأبنائه. إن كل جندى من جنودنا يعلم أنه فى معركته يحارب دفاعاً عن استقلال بلده وعن حرية بلده، يحارب دفاعاً عن رفاهية بلده، يحارب لكى لا تصبح مصر شعباً من اللاجئين. إن الخطة الكبيرة هى القضاء على القومية العربية فى المنطقة، لم يعد ذلك سراً ولا خفاء.
إن المؤتمر الصهيونى الذى انعقد فى الشهر الماضى فى إسرائيل طالب بتحرير باقى فلسطين من العرب، وطالب بتحرير الوطن الإسرائيلى الذى يحلمون به من النيل إلى الفرات من العرب. إن العرب فى رأيهم دخلاء غاصبون، إن فلسطين فى رأيهم أرض يحتلها العرب من غير وجه حق، إن سوريا ولبنان والأردن والعراق بلاد يحتلها العرب كذلك - فى رأيهم - من غير حق!.. ذلك منطقهم وتلك خطتهم، من هنا تبدو أهمية القوة العربية العسكرية اليوم.
وتزداد هذه الأهمية خطورة إذا ذكرنا مع الصهيونية العالمية وشرورها أطماع الاستعمار وخططه البعيدة المدى. إن الاستعمار يعتبر القومية العربية خطراً على موارده، إنهم فى بريطانيا مثلاً يقولون: إنهم لو انقطع عنهم بترول الشرق الأوسط فسوف يصبح عندهم فوراً خمسة ملايين عاطل، وكذلك تقف جميع الصناعات لا فى بريطانيا فقط، وإنما فى أوربا الغربية كلها.
ولقد قلنا لهم أكثر من مرة: إننا لا نريد تهديد مصالحهم التى تلتقى مع مصالحنا، وقلنا لهم: إننا لانريد أن يلحق الخراب بأحد، ورغم ذلك فإنهم يرون من الخير لهم ألا توجد قوة فى الشرق الأوسط غير قوتهم، ويتصورون أن ذلك هو ضمان مصالحهم، هذا أمر بريطانيا معنا، وأمر فرنسا قريباً. إن فرنسا التى تعطى إسرائيل السلاح إنما تقصد أن تشغلنا عن الوقوف بجوار حق تقرير المصير لشعوب شمال إفريقيا المكافحة.
ولقد قلنا لهم: إننا لسنا طلاب مشكلات؛ وإنما نحن لا نستطيع أن نحيد عن مبادئنا. ولكنهم لا يعرفون للمبادئ حقاً ولا قيمة، إنهم يريدوننا أن نكون ذيولاً لهم، يريدوننا أن نقف من مشكلة الجزائر نفس الموقف الذى وقفته حكومة تركيا حين رفضت تأييد قضية الجزائر فى الأمم المتحدة.
إنى أريد أن يفهم جنودكم ذلك كله ويدركوه؛ أريد أن يدركوا أننا نبنى اليوم دولة عظمى، وأريدهم أن يدركوا أن العامل الأول فى بناء دولة عظمى هو القوة العسكرية، وفى حماية هذه القوة العسكرية نستطيع أن نقيم زراعة صالحة وصناعة صالحة وثقافة صالحة. إن السلام لا يمكن صيانته إلا بقوة عسكرية تحميه؛ ذلك أن السلام لا يتحقق من جانب واحد، إن السلام يتحقق حين يعلم كل طامع فينا أننا نستطيع مقاومة طمعه. ليفهم جنودكم أن بناء الوطن يقتضى قيامهم بواجبهم فى حماية ورضاء الوطن، إن صيانة السلام رهن بقدرتهم على القتال.