أثبتت الانتخابات الداخلية الأخيرة لحركة حماس في قطاع غزة وحالة الجدل والامتعاض الذي صاحبها، ودفع الكثيرين للتعبير عن أسفهم أن الحركة خرجت - هذه المرة - عن مألوفها في أن تكون هذه الانتخابات عرساً ديمقراطياً، تفاخر به حماس غيرها من الحركات الإسلامية والوطنية العاملة على الساحة الفلسطينية.
لكن؛ وكما يقولون "ربَّ ضارة نافعة"، قد تكون هذه هي آخر مرة تجري فيها حركة حماس انتخاباتها بالشكل الذي جرى في فبراير 2017، والذي اعتمد على لوائح لم تعد تناسب حالتنا التنظيمية والسياسية والفكرية، ولا بدَّ إذا ما أرادت هذه الحركة أن تحافظ على تماسكها التنظيمي أن تجري تغييرات جذرية في نظامها الانتخابي، بحيث يتيح التنافس على الأفكار والبرامج، ويسمح بمشاركات تعطي كل التخصصات مساحتها في التمثيل القيادي، بدل حصر المسألة في شخصيات ذات مواقف ونمطية تفكير لا تبتعد بعضها عن البعض الآخر.
إن التنوع داخل المجالس الشورية - وكما هو معروف - يثري المواقف والقرارات، ويجعل للشورى معنى ودلالات، أما هيمنه لون أو لونيين لبانوراما سياسية تتطلب كل ألون الطيف فهذا ما يعجِّل بتراجع الحركة، وعجزها في الحفاظ على قدرات التميز والإبداع عند كوادرها وقياداتها.
لا شك أن الانتخابات الأخيرة لم تكن هي الصورة الأمثل التي كنا نريدها لحركة حماس، من حيث النزاهة والشفافية التي تعودنا عليها في معظم انتخاباتنا السابقة، والتي تعودت حركة حماس أن تطل بها على كوادرها والمناصرين لها، وإن كنا - بالرغم من كل ما جرى - نحاول أن نتفهم ذرائع البعض وتبريراتهم للتجاوزات، والتي هي - مع احترامي لكل إخواني في قيادة الحركة – كانت خارج سياق ما تربينا عليه من أخلاق حركية وتنظيمية ومساقات قيمية، وستظل لعبة الكولسات التي وقع فيها البعض تطاردنا على شكل تساؤلات في كل مجالسنا، حول مصداقية هذه القيادة التي تمثلنا، والتي - للأسف - أصابتنا بتصدعات في مفاهيم كنا نعتقد أنها رأس المال الذي نعتد به، كالأمانة والنزاهة والشفافية وطهارة المواقف والكلمات، لتطفو على كل ذلك مصطلحات الخداع والتلبيس والتدليس، والتي - وأسفاه - اتشحت لدى البعض بمسوح التقوى وثياب الواعظين.
نعم؛ "ربَّ ضارة نافعة"، فالتفاعلات التي تجري داخل صفوف الحركة في الداخل والخارج ستوجد بالتأكيد معالجات للأخطاء التي وقعت بقصد أو دون قصد، وستعمل على تخطي عقابيل ما جرى، وتقديم لوائح جديدة أو معدَّلة تنظم بشكل أفضل علاقاتنا الحركية، بعدما غدت حركة حماس رقماً في داخل وطننا الحبيب لا يمكن تخطيه، وهي في سياسات المنطقة لاعباً لا بدَّ من الاعتراف به والتعامل معه.
إن حركة حماس تدرك حجم التآمر عليها، ومكر الليل والنهار - إقليمياً ودولياً - لكسر شوكتها وشطب خطها الجهادي، وهذا يوجب عليها أن تعمل على سدِّ كل الثغرات التنظيمية، وتطييب خواطر كل من شعروا بالطعنة من إخوانهم، والعمل على تقديم لوائح انتخابية تسمح بالتنافس الحر والشريف على كل المقاعد القيادية، وتقطع الطريق أمام لجوء البعض – للأسف - للكولسة والخداع.
إن واقعنا السياسي والذي فرض علينا أن نتحمل مسئولية هذا البلد، والعمل على التكيف مع كل ظروف الحصار والعدوان الإسرائيلي الذي لم يتوقف، هو أيضاً ما يفرض علينا - وفي سبيل التخذيل عن أنفسنا- إعادة التموقع السياسي، وإجراء المراجعات على مستوى الخطاب، لقطع دابر كل من يمارس الكيد والتحريض لتشويه صورتنا والتشهير بنا، وصولاً إلى التساوق مع الأجندة الغربية فيما يسمى "الحرب على الإرهاب"، وبالطبع في جعبة إسرائيل وأجهزتها الأمنية مآرب أخرى.
وكما نجحت حركة حماس في إعداد المراجعات المطلوبة على ميثاقها، والاستماع لنصائح حلفائها من العرب والعجم، والخروج بوثيقة سياسية جديدة أقل ما يقال فيها هو ديناميكية الحركة في البحث عن كل ما يسهم بفك طوق عزلتها والتخذيل عنها، عبر تقديم رؤية قادرة في الذود عن أخلاقياتها الحركية والفكرية، وانسجامها في طروحاتها مع كل ما صاغته المنظومة القيمية الحضارية والقانون الدولي الإنساني، الأمر الذي يرفع عنها الحرج من ناحية، ويمنحها أرضاً صلبة يمكنها الوقوف بثباتٍ عليها، كما أن ذلك يكسبها من ناحية ثانية مواقف أصحاب المبادئ والضمائر الحيَّة في المجتمعات الغربية، بما يعزز استمرار وقفات التضامن والمؤازرة مع شعبنا وقضيتنا، والتي سنجني من وراءها دعماً كذلك الذي نشاهده في حملات المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية (BDS)، والتي غدت إسرائيل تتخوف منها، وتجد أنها تشكل لها تهديداً استراتيجياً ووجودياً.
القوي الأمين: الأولوية وخيار الضرورة
مع منتصف شهر إبريل أو في نهايته، ستكون حركة حماس على موعد مع انتخاب رئيس مكتبها السياسي الجديد؛ باعتباره الشخص الذي سيخلف الأخ الكبير خالد مشعل (أبو الوليد)، بعد عطاء وجهد متميز استمر لعقدين من الزمن، شهدت فيه الحركة تطورات ونقلات نوعية كبيرة على مستوى شعبيتها، وقدراتها الأمنية والعسكرية، وعلاقاتها الإقليمية والدولية.
في الواقع، لقد تعرضت الحركة خلال تلك السنوات العشرين للكثير من الاختبارات الصعبة في ميدان المواجهة العسكرية مع جيش الاحتلال، وسجلت خلال الحروب العدائية الثلاثة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة (2008، 2012، 2014) مواقف بطولية وصموداً رائعاً، وقدَّمت خلال دفاعها الأسطوري عن قطاع غزة الكثير من التضحيات، ونجحت في إفشال كل مخططات العدو الإسرائيلي من وراء تلك الحروب والاجتياحات المتكررة للقطاع، وأحبطت كل أهدافه.
لا شك أن الأخ الكبير خالد مشعل كان في قيادته للحركة زعيماً متميزاً لها، بالرغم من ملاحظات البعض وتحفظاتهم على عددٍ من المواقف والتصريحات.
كان الأخ خالد (أبو الوليد) قائداً يحظى بتقدير إخوانه واحترامهم، وهو يتمتع بكاريزما عالية، وصاحب علاقات واسعة في الإطارين العربي والإسلامي؛ الرسمي والحركي. وقد شهد عهده تطورات هائلة في إمكانيات كتائب القسام الأمنية والعسكرية، حتى غدت الكتائب من حيث العدد والعدة أشبه بجيش نظامي، يمكنه الدفاع عن قطاع غزة، والذود عن حياض أهلنا فيه.
لذلك، فإن المواصفات للشخص القيادي الذي سيخلف الأخ خالد (أبو الوليد)، تتطلب معايير ذات مؤهلات عالية، حيث إن من سيملأ هذا الفراغ القيادي يجب أن كفاءة على مستوى الرؤية الاستراتيجية، ويتمتع بقدرات علمية وحركية متميزة، ويمتلك شبكة من العلاقات في الساحتين العربية والإسلامية تمكنه من نسج الصداقات التي تسمح له بالتواصل وكسب الدعم المطلوب للحركة، وخاصة في أوساط الحركات الإسلامية ذات المكانة والتأثير والقدرات في دول المنطقة، وأن يكون كذلك معروفاً على الساحة الدولية.
إن من سيتم انتخابه لخلافة الأخ خالد (أبو الوليد) كرئيس للمكتب السياسي، سيكون هو – بلا شك - العنوان الذي تطل من خلاله حركة حماس على الفضاء الأوسع للأمة، والذي سيمكِّنه من ولوج أبواب الدول وقلوب شعوبها، بهدف حشد المواقف الداعمة للقضية الفلسطينية ونصرة أهلها.
إن حركة حماس لديها الكثير من الكفاءات التي يمكنها أن تملأ فراغ الأخ الكبير خالد (أبو الوليد)، ولكن معطيات الظرف المحلي والإقليمي والدولي لن تغيب من حسابات المرجعية الشورية لقيادة الحركة عند مفاضلتها بين الإخوة المرشحين لشغل هذا الموقع الأهم للسنوات الأربع القادمة.
نعم؛ قد يكون الحصار الذي يعاني منه قطاع غزة، والاحتلال الذي يفرض قيوده على الضفة الغربية، قيداً يعيق لقاءات الإخوة في المجالس الشورية الكبرى للتشاور الموسع حول أفضل الخيارات لقيادة المكتب السياسي، ولكن هذا الاستحقاق سيتم ويتحقق بما هو متاح من الأجواء، وستتوافق الحركة على الكفاءة الأقدر على التعاطي مع المرحلة، والأوعى على تحديد ملامحها السياسية والأمنية وبناء رؤية استراتيجية وحركية للتعامل معها.
في الحقيقة، إن الخيار لن يكون سهلاً بين هذا العدد المحدود من الأسماء المطروحة للمفاضلة بينها، حيث إن متطلبات "القوي الأمين" التي يجب أن تتوافر فيمن سيقود الحركة هي تحدٍّ كبير لكل المشاركين في اتخاذ القرار، وتتطلب نزاهة وطهارة ضمير عالية، لتأتي لهذه الحركة المباركة بالخيار الأفضل لقيادة المرحلة في سنواتها القادمة، وهي ربما الأصعب في مسيرتها الطويلة، كحركة تحرر وطني ذات مرجعية إسلامية.
إن من سيقود الحركة لن يكون بالطبع وجهاً غير مألوفٍ لقياداتها وكوادرها، بل شخصية معروفة تحظى باحترام الجميع وتقديرهم لها، وهي قيادة قادرة على العمل بروح الفريق، من خلال ما هو مشهود من تاريخها وتجربتها الحركية والدعوية، ومؤهلة للتعامل مع ما تتطلبه صعوبات الوضع الإقليمي وتعقيدات الحالة الدولية من النباهة السياسة وحسن التقدير في اتخاذ المواقف، بما يسهم في التخذيل عن الحركة وتدبير مستقبلها بما يحفظ كسبها السياسي والجماهيري من ناحية، ويسهم بوقف حملات التشهير والتحريض عليها من ناحية ثانية.
ختاماً: حماس وضرورة المراجعة
مع الإعلان عن الوثيقة السياسية الجديدة، واختيار المكتب السياسي للسنوات الأربع القادمة، فإننا نتوقع أن تجرى الحركة كذلك تعديلات على لوائحها الانتخابية، للحفاظ على تماسك الحركة ووحدتها، حيث تبين أن اللوائح التي جرت عليها انتخابات فبراير الماضي لم تعد تناسب مكانة الحركة، من حيث اتساعها ووعي كوادرها، ففي عالم الفيسبوك والتويتر أصبح الإنسان يتلقى التوجيهات والانتقادات وتقديرات الموقف من مصادر مختلفة، حيث لم تعد أدبيات الحركة وبياناتها بشكلها التقليدي إلا مجرد وجهات نظر واجتهاد رأي، تجد لها الكثير من التحدي في سوق المنافسات، من حيث الوعي والتأصيل على مواقع التواصل الاجتماعي.


