بعد صدور التقرير حول الحرب الأخيرة على غزة: السياسة والحرب ..حسين حجازي

السبت 04 مارس 2017 09:26 ص / بتوقيت القدس +2GMT



في أعقاب الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973، صدر التقرير الأول عما يسمونه الإخفاقات أو الأخطاء والثغرات واستخلاص العبر، والذي أطاح بحكومة غولدا مائير وانتهت فرادة حكم حزب العمل التاريخية ثلاثين عاماً لإسرائيل، وبدأ عهد حزب الليكود. وفي أعقاب حرب لبنان  ضد منظمة التحرير الفلسطينية وارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا، صدر التقرير مرة أُخرى لبحث الأسباب نفسها، وانتهى الأمر بإبعاد أرئيل شارون عن تولي وزارة الحرب نهائياً واعتزال مناحيم بيغن الحياة السياسية، وإصابته بمرض الكآبة ثم موته.  
وفي أعقاب حرب تموز العام 2006 التي وصفتها عند اشتعالها كونداليزا رايس بأنها تحقق إقامة الشرق الأوسط الجديد، وهزيمة الجيش الإسرائيلي أمام حزب الله وتبدد وهم إقامة الشرق الأوسط الجديد، صدر التقرير الثالث وانتهى حكم حزب «كاديما» قبل أن ينتهي إيهود أولمرت إلى السجن بتهمة الرشوة والفساد. وفي أعقاب الحرب الثالثة على غزة العام 2014 صدرت قبل أيام النسخة الرابعة من التقرير، بينما يواجه بنيامين نتنياهو في الوقت نفسه التحقيقات معه في قضايا تتعلق بالرشوة والفساد. 
وكأنهم لا يملّون من الحروب ولا يتعبون من كتابة التقارير، ولكن الدلالة او الحقيقة واضحة في جميع حروبهم خلال الخمسين عاماً الماضية منذ حرب العام 1967، فقد بلغوا في هذه الحرب ذروة انتصاراتهم الباهرة والمدهشة، أما بعد ذلك أي حروبهم اللاحقة فإن موشي دايان هو الذي لاحظ في مذكراته أنهم بلغوا في العام 1967 ذروة قوتهم وقدرتهم على القتال أو تماثل هذه القوة، وأنه بعد ذلك قانون الطبيعة والتاريخ أي النزول والانحدار والهبوط. ولذا بعد حرب 1973 تحول بطل أبطال حروب إسرائيل وأسطورتها إلى حمامة تدعوا إلى السلام، وترك حزب العمل والتحق بمناحييم بيغن كوزير للخارجية ليصنع السلام مع أنور السادات ومصر. 
منذ العام 1967 لم تعد إسرائيل تنتصر في الحروب مع الأعداء العرب، ومن اللافت أن ثلاثاً من الحروب الأربع الكبيرة التي قامت بها.. حروب الإخفاقات منذ العام 1973، لم تكن في مواجهة الجيوش العربية التقليدية التي خرجت من الصراع عملياً منذ أدائها الأخير العام 1973، وانما على التوالي ضد الجيوش غير التماثلية لحركة فتح العام 1982 في لبنان، وحزب الله العام 2006 وأخيراً «حماس» في غزة. 
لكنني أظن أن المسألة التي يجب من خلالها الاقتراب من هذه القصة ليس تبيان دلالة هذا الخط البياني في انكساره التاريخي، في سياق حروب إسرائيل من الصعود الى الهبوط. وإنما المنظور الفلسفي الذي ما برح يعاود ظهور وتشكل الأزمة الإشكالية من جديد، وكتابة التقرير حينما يتحول هذا التقرير نفسُه على مدى الحروب الأربع الأخيرة المتواصلة الى ما يشبه تراكماً للخبرة في برميل أجوف، لا يحدث التحول او التغيير التاريخي المطلوب. 
ومن هذه الزاوية، لعله أيضاً الجدير بالتنويه الى أهمية وتميز هذا التقليد، الذي ينتهجه العدو بالقيام في كل مرة بإحداث هذه المراجعة او المراقبة والتدقيق الذي يرقى الى المساءلة الجماهيرية او الجماعية للساسة والعسكريين، في أعقاب هذه الحروب، وهو تقليد يصب في إدراك وتغليب هذا الإدراك بحقيقة غير مباشرة، ومفادها أن القوة نفسَها لم تعد في عصرنا تقاس او تحدد بفوهات المدافع والطائرات، وإنما بمعايير المساءلة وآليات التحقق والمراقبة، والتي يمكن ان نسميها الى جانب معايير أُخرى بمضاعفات القوة.  
وهو تقليد يحسب للنظام السياسي الإسرائيلي ويمكن مع تحفظ يتعلق بانعدام ديمقراطيته وتفشي عنصريته تجاه الآخر، الإقرار بجدارته كتقليد ملهم ويعكس حيوية النظام الإسرائيلي وقوته كنظام ما زال على قدر من قيم المحاسبة والشفافية. وهي برأيي أهم من تفوق إسرائيل عسكرياً ومادياً بكثافة النيران وسلاح الجو وما إلى ذلك من وسائط القوة المادية. 
لكنني أظن أنه على مدى هذه التقارير او المراجعات لحروب إسرائيل، فإن العيب الإستراتيجي أو ما يسميه المحامون اصطلاحاً العوار الإستراتيجي أو الثغرة، انما كانت ولا تزال ربما تكمن في أن هذه التقارير تنصب بالإجمال على مراجعة ودراسة عمل الأشياء او المهام التي ينفذها الجيش، ومحاولة التحقق إن كان يعملها أو يقوم بها بالصورة الصحيحة أم لا؟ بينما السؤال الرئيسي او الجوهري يوجد في مكان آخر عميق، وهو إن كانت الدولة والنظام السياسي.. القادة السياسيون والعسكريون جميعهم يعملون الشيء الصحيح؟ والذي يعني ان دولة بأكملها لا تزال تعيش على حد السيف، وان المراجعات التي تجري عبر هذا التقليد المتواصل والذي لا ينتهي او يتوقف، كما الحروب التي لا تبرح ان تتجدد، ان نقطة القياس هي مع التخيل او الوهم والاعتقاد الزائف أي مع حروب وانتصارات الحقبة الأولى الباهرة والمدهشة، دون الإدراك ان هذه الحقبة لن تعود، وان الأعداء أنفسهم لم يعودوا هم أعداء الأمس أي العام 1948 والعام 1967، حتى ان الحرب مع غزة استطالت حتى واحد وخمسين يوماً لتصبح بذلك أطول حروب خاضتها إسرائيل في كل تاريخها. 
ما هو إذن عمل الشيء الصحيح؟ وأقول هنا انه يحسب لمراقب الدولة يوسف بن شابيرا وواضعي التقرير الأخير، انه لأول مرة ربما لامس التقرير أو قارب هذه المسألة، حين أشار الى ان واحدةً من أهم قصور وإخفاقات هذه الحرب الأخيرة على غزة، عدم البحث مسبقا في الخيارات السياسية البديلة عن الذهاب الى الحرب التي كان يمكن تحاشيها. أي بمثابة البحث فيما يسميه كلاوزفيتز الإجراءات السياسية البديلة التي تتفوق على القتال والحرب.  
وذهبنا خلال ذروة الحرب الى اعتبارها الحرب الغبية لأن الإجراءات السياسية والتي تتفوق عليها، كانت واضحة للجميع وملقاةً على قارعة الطريق لمن يريد ان يراها ويلتقطها. لكن غرور بنيامين نتنياهو واستسهال الضغط على الزناد أدى الى نشوء الحرب، التي لم يكن لها أي هدف ولم تحقق أي هدف، ولوثت صورة إسرائيل عالمياً الى يومنا هذا. وبقية القصة معروفة انتهت ولطخت ادعاءات إسرائيل عن طهارة سلاحها واستقامتها الأخلاقية والسياسية إلى الأبد. 
وان عمل الشيء الصحيح ما زال ملقى على قارعة الطريق وهو حل الدولتين لشعبين وإنهاء الاحتلال. فهل نقترب بعد الجدل الصاخب داخل إسرائيل من حول التقرير الى إحداث مراجعة تاريخية في إسرائيل، قوامها عمل الشيء الصحيح؟ وقد ثبت الآن أنهم حتى لم يعودوا ينفذون المهمة او يعملون الأشياء بالصورة الصحيحة، بعد أن تعلّم أعداؤهم كيف يعلّمون أنفسهم بأنفسهم، ليعملوا الأشياء بصورة صحيحة. والسؤال الآخر هل يقتفي نتنياهو أثر أسلافه غولدا مائير ومناحيم بيغن وايهود أولمرت كنتيجة لهذا الإخفاق؟ أم أن الرجل لن يخرج من تلقاء ذاته؟ إن غداً لناظره قريب.