كان المشهد الافتتاحي للقصة التي تبدأ معنا الآن وللتو ما يسمى بعهد دونالد ترامب في واشنطن ريتشارد قلب الأسد، ربما بالنسبة لنا نحن الفلسطينيين للوهلة الأولى باعثاً على قدر من الغثيان أو حتى استفزاز مشاعرنا، ولكن وقائعه لم تكن مع ذلك بالنسبة لوعينا أو عقولنا صادما. فقد توقعنا هذا القدر من النفاق، وأن ترامب ربما لن يقوم كما كان يفعل أوباما وأسلافه، ولو على سبيل الاستحياء السياسي بلعب هذا الدور من إحداث هذا القدر من التوازن، أو دور المحامي الذي يحاول إنصاف مطالبنا أو ذكر الشقاء والمعاناة والأذى الذي يلحقه الاحتلال بنا.
كان مشهداً باعثاً في لغة الفعل والسياسة على الالتباس والركاكة والغموض الذي يطرح الأسئلة، أكثر مما يوضح وجهة السفر المقبلة أو يعطي الأجوبة. تماماً ربما على صورة الرجلين اللذين مثلا هذا المشهد الذي انتظره العالم كله وراقبه، واعتبر حاسماً أو مفصلياً لكونه كاشفاً. فالأول أي ترامب اقترب من إعطاء الأجوبة أو المواقف، ولكنه ترك هذه المواقف أو الأجوبة، ربما قاصداً ومتعمداً، ناقصةً لا تضع نقاطاً على الحروف، تفتح قوسين لفراغ نحاول تكملته. شيء من قبيل اللعبة الباطنية لرجل حاول أن يبني لنفسه صورة الرئيس الصريح، الذي لا يخشى في مواقفه لومة لائم. أما نتنياهو ولا أدري لماذا مع ذلك بدا مكتئباً ومنخفض المزاج، فقد كان كما نعرفه مراوغاً يفتقد الى الاستقامة يضع خطوطاً دفاعية لا يريد حلاً ولا سلاماً.
لم يكن هذا الذي رأيناه ورآه العالم هو الأسوأ، ويقال عادةً إن الأسوأ لم يحدث أو يأت بعد. ولكنه لم يكن جيداً. فقد استمعنا الى رئيس جديد في الولايات المتحدة، رئيسٍ مثير للجدل وإشكالي، يريد حلاً لهذا الصراع وعلينا ان نصدقه. ولكنه يواجه نفس المشكلة بل المعضلة التي واجهها سلفه أوباما، إنه بعد رابين لم يبرز بعد في إسرائيل ديغول جديد. فكيف يمكن التوصل الى هذا الحل؟ أو كيف نذهب من هنا؟ وشرحت السيدة حنان عشراوي هذا المأزق أي إحالة الأمر إلى الطرفين، بأن المسألة لا تتعلق بنزاع حدودي مختلف عليه بين طرفين متكافئين أو متعادلين في توازن القوى، وإنما باحتلال. وهكذا فإن المسألة ليست ترفاً سياسياً للاختيار والتفضيل بين دولتين أو دولة واحدة.
وأرى أن الجواب الفلسطيني كان في منتهى الذكاء والحكمة : لا تريد يا نتنياهو حل الدولتين؟ حسناً لا مشكلة. ولكم زعران اليمين الفاشي والغبي في إسرائيل ما تريدون وبدون إطلاق رصاصة واحدة لا داعي لها. دولة واحدة ديمقراطية يتساوى فيها مواطنوها المختلطون، كما دعا ذلك إدوارد سعيد أحد أفضل المفكرين الفلسطينيين في العقود الأخيرة، دولة لا يهودية ولا إسلامية ولا مسيحية. ولكن تتعايش وتتساوى طوائفها كما قال صائب عريقات والسيدة حنان عشراوي.
ولكن هل أحد يتذكر الآن أن هذه الدولة كانت الهدف الاستراتيجي الأول، والذي أثار إعجاب ودهشة النخب الثقافية في أوروبا العام 1971، الذي طرحته حركة فتح والثورة الفلسطينية كشعار مؤطر للكفاح الفلسطيني؟
كل الطرق قيل قديماً تؤدي الى روما. ولكنها مثل أعمارنا تحت الشمس وتاريخ البشرية ليست بالأخير، سوى دوائر التفافية لا تبرح أن تعود بنا في نهاية المطاف الى نقطة البداية، إلى أنفسنا. فهل هذا ما يحدث بأن نعود بعد كل هذه الدائرة الالتفافية الى نقطة البداية العام 1971؟ حين طرحنا هدف الدولة الديمقراطية العلمانية الأكثر نضجاً من هدف تحرير فلسطين الناجز والكامل؟ وقبل أن يقول لنا العالم أو من أجل أن ندخل تحت عباءة نظامه وشرعيته الدولة المصغرة على الأراضي المحتلة عام 1967 ؟ وكانت تسميها الجبهة الشعبية "الدولة المسخ" ؟.
وحيث يقرر التاريخ الماكر أن ينتدب لنا أشر أعدائنا والذين هم مجموعة من المتطرفين المعتوهين أمثال نفتالي بينيت وحتى نتنياهو المراوغ، ومن لف لفهم أن يكونوا هم وليس غيرهم من ينتدبهم التاريخ لتحقيق حكمته.
ولا تدهشوا من ذلك أو تخافوا أيها الفلسطينيون. فالحكمة أنه غالباً ما ينبثق الخير من الشر، أو ما بدا أنه الشر. وفي القرآن قال تعالى "عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم" . والذي حدث أن أقصى اليمين غالباً ما كان قد أدى هذه المهمة في تاريخ أوروبا الحديث، فمن غلو الفاشية أقصى اليمين المتطرف وتماديها، الذي كان يحمل نزعة دمارها بذاتها. ولدت أوروبا التي نعرفها اليوم المتحررة من لوثة استعمارها لشعوب أخرى وأدرانها القديمة، لتعود الى نفسها، الى بداياتها وقيم حداثة أنوارها، التي تمجد الحرية وقيم حقوق الإنسان ومبدأ العدالة التاريخية. وبرز في هذا الوقت ديغول الفرنسي الذي أنهى استعمار فرنسا للجزائر.
فهل هذا هو السبب أن اليسار الإسرائيلي لم يفرح أو يشمت لما بدا انه سقوط حل الدولتين أو تراجع أميركا عنه؟، وتساءل أحد أبرز كتاب ومعلقي صحيفة يديعوت أحرنوت: وإذن ما هو البديل؟ وهل تبدو هذه هي حيرة نتنياهو واليمين حينما تذهب السكرة والنشوة وتحضر الفكرة؟ بحيث يبدو المأزق الإسرائيلي اليميني كمن بلع السكين، ليس قادراً على الضم أي الدولة الواحدة وأيضاً يخشى من حل الدولتين.
وحاول نتنياهو أن يهمس كما يبدو لنا أو نخمن داخل الاجتماع المغلق مع ترامب، عن الحل العبقري والبديل والذي أسماه النهج الإقليمي. لكن المصيبة جاءته بصورة مفاجئة من الوزير الدرزي أيوب قرة، الذي لم ينتظر رئيسه الذي وزره قبل وقت قصير، أن يقوم بنفسه بطرح هذا السر أو الحل العبقري على ترامب، مفسداً بذلك السر على طريقة السبق الصحافي. وهنا لعل ترامب نفسه سأل نتنياهو قبل أن يسأل كاتباً إسرائيلياً، إن كان أحد من العرب أو الائتلاف السني سوف يشتري منكم هذه البضاعة بالطريقة التي تطرحها؟.
ولم تتأخر مصر في التبرؤ من هذا الادعاء، وقالت الأردن إن حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية هو مصلحة عليا للأردن، قبل أن يوعز ترامب نفسه بعد يوم واحد مما بدا في المؤتمر الصحافي مع نتنياهو تراجعه عن حل الدولتين، الى سفيره المرشح الى إسرائيل وسفيرته في الأمم المتحدة التأكيد على التزام إدارته بحل الدولتين. وانه سوف يتشاور مع الدول العربية بمن فيهم الرئيس محمود عباس كما تسربت معلومات صحافية من البيت الأبيض، وقادة الغرب والأوروبيين، بشأن الخطوط التي يعدها لطرح ما يسميه الصفقة الكبرى لحل الصراع.
وفي الخلاصة يمكننا بشأن تقييم ما حدث، الإمساك بقلم لنضع خطوطاً تحت ما يبدو لنا في مواقف الرجل النقاط الدالة، وهذه هي النقاط:
أكد ترامب عدة مرات أن أي حل أو صيغة حل هي بالتوافق مع الفلسطينيين سواء حل الدولتين أو الدولة الواحدة، في الموقف الأول الذي عرضه قبل أن يعود الى تأكيده على حل الدولتين. وهنا وفق ما سربه مقربون من ترامب في اليوم التالي، فإن الرجل على ما يبدو كان يوجه تحذيراً مبطناً الى نتنياهو واليمين الإسرائيلي مفاده أن البديل عن حل الدولتين هو الدولة الواحدة.
تحدث هذه المرة كرئيس وليس كمرشح حينما دعا نتنياهو قائلاً له وجهاً لوجه إن على الاستيطان أن يقف. وذهب أبعد من ذلك لتثبيت آلية مراقبة تكون إدارته طرفاً فيها لوقف هذا الاستيطان. وقيل إنه طلب من نتنياهو عدم اتخاذ أي خطوات أحادية الجانب فيما يتعلق بتوسيع الاستيطان.
تحدث عن تنازلات بدا أنه يقصد فيها إسرائيل أكثر من الفلسطينيين متبادلة ومرنة. وكلمة تنازل كررها عدة مرات أمام نتنياهو.
لم يوافق نتنياهو على الطلب من الفلسطينيين الاعتراف بيهودية الدولة، وتحاشى ذكر يهودية الدولة وذكر بدلاً من ذلك دولة إسرائيل.
ولعله أسمع وكان متعمداً نتنياهو أنه مصمم شخصياً على تحقيق التسوية.
لم تعد قضية نقل السفارة الى القدس واردة، وقال الرجل بطريقة دبلوماسية أمام نتنياهو إنه ما زال يدرس الأمر بعناية وحذر. وسنعلم في اليوم التالي أن نتنياهو الذي طرح عليه مقابل التراجع عن نقل السفارة الى القدس، الحصول على اعتراف من ترامب على ضم الجولان وهو ما رفضه ترامب. وسرب مقربوه ما يبدو أنه يرفض أن يكون ألعوبة يستغله نتنياهو لأخذ ما يشاء كما كان يعتقد نتنياهو واليمين في إسرائيل، والذي أصيب بخيبة الأمل.
واذن يبقى السؤال بعد ذلك أي رهان بقي أمام نتنياهو اذا كانت هذه هي المحصلة والمؤشرات؟ وهل يبقى أخيراً أمامنا الافتراض بأن طلب ترامب تقريراً مفصلاً عن التحقيقات مع الرجل قبل اللقاء معه، كان يتجاوز حدود الفضول الشخصي، وإنما يتعلق بسؤال ضمني وخفي راود ترامب عن مدى صلاحية بقاء هذا الرجل في الحكم.


