الصلاة ذِكر و دعاء و صِلة ، الصلّاة فعلاً إلغاء للقانون الماديّ ، و تحطيم للخضوع للزمن و خروج مَوْقوت و منظم لجماعات من العباد عن الخضوع للمخلوق و إعلان الخضوع و التسليم فقط للخالق ، فعندما تبدأ جماعة من العباد صلاة العصر في مكان ، تبدأ عملياً جماعات أخرى بصلاة المغرب في مكان آخر ، علماً بأن الجماعتين متجهتين في ذات التوقيت إلى قبلة مكانية جغرافية واحدة رغم إختلاف مواقعهما الجغرافية و الزمنية ، و تبدأ ربما جماعات أخرى في ذات التوقيتات المتباينة صلاة الفجر ، أو العشاء ، فجميعهم هنا يحطمون الزمن ، يقهرونه ، يخرجون في ثورة رائعة ، ثورة الروح على أحكام المادة و ناموس المكان و الزمان ، فلا زمن يحكم التوجه و الإتصال ، و الإنعطاف خارج مدار الموجود إلى الإنطلاق نحو الواجد سبحانه ، هنا ينبلج معنى الروح الواضح ، فبعد تعقيدات تفسير ماهية الروح ، و بعد أن فسره من رأى أن تفسيرها محجوب ممنوع ، و إرتكز من قال بهذا إلى قوله تعالى : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً، وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً، إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} [سورة الإسراء: الآيات 85-87] ، و بالتأمل و الله تعلى أعلى و أعلم ، نرى أن الإبهام منعدم ، و أن الروح مُعرّفة تعريفاً ظاهراً في هذه الآية ، فهي ( من أمر ربي ) أي أنها تتعلق بعالم الأمر ، و ليس بعالم الأشياء قانون الماديات التي نعيشه ، الروح هي الخير ، و الأمر أوضح من أن يُفسر ، فالرّوح في كل الآيات جاءت للدلالة على كل ما هو خيِّر و كامل ، فقد وصف الله تعالى نبيه عيسى بن مريم عليه الصلاة و السلام بأنه " روح منه " في قوله ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۖ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا ) - الإسراء (171) ، أي أنه ملئ بالبركة والطهر والخير من الله تعالى ، و الصفاء العلوي غير المُشَيئ و لا المادي ، و أيضاً في قوله تعالى عن سيدنا آدم عليه الصلاة و السلام : ( ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ) -السجدة (9) ، و هنا مرة ثانية توضيح صريح ، فالنفخ لغة هو إدخال شئ على شئ يُغيِّر الشكل والأداء و يُبقي الأصل ، روح الله هنا هي مقدار إرادة الخير في الإنسان ، بل إن الأمر يزداد وضوحاً في سورة القدر ، بقوله تعالى (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ) - (4) ، فالإشارة واضحة هنا أن الروح أو الخير أو علّهُ القرآن الكريم ، أو هو جبريل عليه السلام ، جميعهم أو أي منهم يُنزّلون من عالم الأمر إلى عالم الأشياء ، و أياً كان المسمى ، فالمعنى واحد و هو أن الرّوْح هي مقدار الخير و البركة سواء أكان المسمى هو المسيح عيسى بن مريم ، أو جبريل ، أو القرآن ، و عملية إطلاق هذه الروح ، و هذا الخير و تلك البركة الكامنة في نفس كل مخلوق ، حظي بنفخة الروح من الله تعالى ، بالصلة و التواصل و التوجه تائِقة إلى عالم الأمر حيث الطهر و الإمتثال الكامل ، هي الصلاة ..
و الجميل و الأروع لو تأملنا تلك الإيماءة التي يقوم بها المصلي في آخر الصلاة ، بالسلام يميناً و يساراً ، وكأنه يسلم على كل الموجودات ، التي شاركته عملية التواصل و الإبحار خارج المألوف و الناموس المادي ،سواء على يمين الكون أو يساره ، و هو يعلم أنه و إن كان قد صلى ( جغرافيا) على قمة الأرض أو قاعها ، أو على يسار الكون أو وسطه في طائرة أو باخرة ، في صاروخ أو على سطح القمر ، أو خارج المجرة ، فهو يتواصل دون التقيد بمحدوديات الموجودات و إحداثيات المخلوقات المادية ، وليس أدل على ذلك من الإيماءة الأخرى في بداية الدخول في عملية ( الخروج) من المحدودات المادية ، و الإنطلاق نحو الرحاب العلوية ، و الإتصال بالله تعالى و عالم الأمر ، من إشارة التكبير برفع اليدين تسليماً و استسلاماً لله ، و نفض الدنيا و المادة وكل قوانينها خلف ظهره ، و من ثم التوجه بالتواصل مع الله سبحانه ..وباقي المخلوقات العابدة المسبحة من بشر و ملائكة و أشياء في عالم ( التشييئ ) ، وجمعهم يحالون الإتصال بعالم الأمر و بالله ، كل بمقدار إيمانه و بمقدار تركيزه و صفاء نيته تنعكس على قدرة الإتصال .
ما سبق كان في تأمل معنى الصلاة مجردة ، فماذا إذن يعني مفهوم الصلاة على النبي ( عليه الصلاة و السلام ) ، أو الأنبياء ، بل و ماذا يعني أن الله تعالى يصلي علينا ؟ حيث يقول تعالى : ( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ) – الأحزاب- (43)، و ماذا قد تعني آية الأمر (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) -[الأحزاب:56] - و قد قيل : رسمت في المصحف ( الصلوة ) بالواو أحياناً ، لأن لامها مفخمة في قراءة ورش ، والصحيح : أنها رسمت هكذا إشارة إلى أن أصل ألفها الواو ، ومثلها رسمت ( الزكوة ) ولا تفخيم فيها، وربما هو كل الصحيح مجتمعاً ، من حيث النطق و الرسم و العدد الحاكم للمعادلة العددية القرآنية وفق الأبجدية القرآنية بحسب ما ذهب إليه الباحث عدنان الرفاعي فتح الله عليه ، و الله أعلم . ولغة يقال : صلَّى / صلَّى على يصلِّي ، صَلِّ ، صَلاةً ، فهو مُصَلٍّ ، والمفعول مُصَلًّى عليه.
صلَّى الشَّخصُ : أدَّى الصَّلاةَ ، صلَّى الفَرَسُ في السِّبَاق : جاءَ مُصلِّياً ؛ وهو الثاني في السِّباق ، صلَّى فلانٌ : دعا ، صَلَّى القِدْرَ عَلَى النَّارِ أَوْ بِهَا : سَخَّنَهُ . معنى صلا في لسان العرب الصَّلاةُ الرُّكوعُ والسُّجودُ والجمع صلوات الصلاة الدُّعاءُ والاستغفار ، معنى صلا في مختار الصحاح ص ل ا : الصَّلاةُ الدعاء والصلاة من الله تعالى الرحمة. صلاة اسم -الجمع صلوات ، الصلاة- يراد بها الدعاء (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) ، ويراد بها المغفرة والرحمة ( ان الله وملائكته يصلون على النبي) ،ويراد بها بيوت العبادة (ولولا دفع الله الناس بعضهم بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات) .
والصلاة ، لغة في جذرها اليائي ، تفيد معان متعددة منها ، الوصل و الإنعطاف نحو و التوجه إلى ، و هنا يفهم أن الله يدعونا بأن ننظر و ننعطف قولا و عملاً نحو رسول الله و منهاجه ، كما ينظر هو تعالى عز و جل إليه بعين العطف و الرحمة و يحث ملائكته أن تنظر إليه بالدعاء بالرحمة و التمجيد . و الصلاة ، أيضاً في اللغة كأن تقول صلى بالنار ،ويرجع هذا إلى جذر لغوي يعني اتصال شيئين ببعضهما وتلازمهما وتحاثّهما، ومنه قيل في معنى الصلاة: إنّ أصلها بمعنى اللزوم، كما ذهب إليه الزجاج، ومنه قيل للفرس ( الحصان) الثاني بأنّه المصلى، أي التالي للفرس الأوّل والمتصل به بلا فاصل فرسٍ آخر بينهما، فيرجع الجذر إلى مفهوم الوصل والتصلية، ومن هنا نقول: تَصلاهُ النار، أي تمسّه وتتصل به، إذاً فالصلاة إتصالٌ و تواصل ، حيث يتصل الله تعالى و ملائكته بالنبي ، و يأمرنا الله بأن نتصل بالنبي كذلك ، إتصالا نفسياً و روحياً و منهجياً ، و لله المثل الأعلى فإتصاله سبحانه يكون بالرحمة و المغرة و القدرة ، و إتصالنا يكون بإتباع منهج الرسول و الدعاء له بالمكانة و الرفعة لدى الله تعالى وبهذا تعود الفائدة علينا ، حيث تكتمل حلقة التواصل ما بين ما يمنحه تعالى من رحمة و عطف و ما تدعوا به الملائكة من رحمة و مقاماً محموداً للرسول و ما يدعوا به الناس لنبيهم و يتصلون به تقليداً و هدياً و سيراً على منهجه ، فيحصل هذا التواصل الكامل بين مخلوقات الله سبحانه في أبهى صورة من صور التعبد و التمجيد و السمو .


