ترجمةً فعلية وسريعة للمفهوم الشامل " أميركا أولاً"، وحسب ما كشفت عنه وكالات الأنباء ، طلبت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الجانب الإسرائيلي عدم الإقدام على أي خطوات أحادية ومفاجئة بخصوص ضم مستوطنة معاليه أدوميم .
هذا وكان الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب قد حرص أثناء خطاب التنصيب على أن يرسل رسائل مهمة داخلية ولدول العالم، كان مفادها وجوهرها يتلخص في كلمتين فقط هما "أميركا أولاً"، مما يعني أنه لن يسمح بتهديد مصالح أميركا وهي قمة أولوياته، مما أدى إلى حالة من الهلع في كثير من الولايات الأمريكية الذين رأوا أن في ذلك تهديد سيجلب لهم العزلة وإدخال الولايات المتحدة في صراعات ، وهلع من نوع أخر في دول العالم التي لربما وجدت في تلك الكلمات توجهاً استراتيجيا مخالفاً بالمجمل للإدارات الأمريكية المتعاقبة ، التي لربما ستؤدي إلى حالة من الانعزال والأحادية في ملاحقة مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي ستؤثر على مصالحها.
تلك الإدارات التي اعتمدت الجيوسياسية للولايات المتحدة الأمريكية لتكون نهجاً أساسياً اتجاه أنظمة موجهة صوب السوق العالمي ، حيث أنها اعتمدت على الانفتاح السياسي وتحرير التجارة، وزيادة حركة الرأسمال، والمحافظة على سياسات ملائمة للرفاهية الاجتماعية، وهذا المفهوم في حد ذاته قائم على أساس تأثير الجغرافيا على السياسة، أي بمعنى أخر يعتمد على ضرورة فهم الروابط والعلاقات السببية بين السلطة السياسية التي تتمثل بالقوة العظمى والحيز الجغرافي المترامي الأطراف الذي يتمثل في دول العالم الأخرى في هذه الحالة التي نتحدث عنها وذلك ضمن شروط محددة.
كما حرصت الولايات المتحدة خلال العقود الماضية على أن تخلق ضمانات، تدعم السلم العالمي وخاصة فيما يتعلق بأمن أوروبا والشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا من خلال حلف الناتو وتحالفات أخرى عديدة ، ذلك من خلال السماح لها بإقامة قواعد عسكرية في كثير من المحاور المهمة في دول العالم.
اليوم بعد خطاب التنصيب الارتجالي للرئيس دونالد ترامب والذي امتد إلى 16 دقيقة وجاء في لحظات عاطفية انفعالية ، مُلَخٍصاً لأفكار وقناعات شخصية بعيدة كل البعد عن واقع السياسة الدولية القائمة وتحدياتها ، وجاءت من رجل يحمل خلفية الفكر التجاري الذي يعتمد المساومة نهجاً في تحقيق المكاسب والإنجازات، يبدو المشهد وكأن العالم لم يتقبل ما جاء فيه، وبالتالي خرجت الاحتجاجات بالأمس في كثير من عواصم دول العالم في شمال أميركا وأوربا وأسيا وافريقيا للتعبير عن تخوفاتهم من هذه الأفكار، التي لربما ستخلق حالة من الانعزال، نتيجة توجهه لسياسات تبدو بأنها ستكون شعبوية معادية للعولمة تقوم على التدابير الحمائية، التي لربما ستؤدي إلى عرقلة التجارة الحرة من جهة وستفرض قيودا على حركة العمل ورأس المال من جهة أخرى، وذلك بعد أن تَعَود العالم خلال سبعين عاماً من البناء والازدهار الدولي الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية على سياسات مختلفة ، بقيت معتمدة على سياسة الانفتاح.
لذلك يبدو أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أدرك هذه التخوفات وانعكاساتها على الولايات المتحدة الأمريكية مبكراً ومنذ اليوم الأول له في البيت الأبيض ، حيث بادر بالقيام بزيارة وكالة الاستخبارات الأمريكية المركزية "سي أي إيه" لكسب ودها من خلال الثناء على كادرها والتعبير عن دعمه لها، حيث أنه يعلم بأن هذه المؤسسة هي الوحيدة التي بمقدورها التأثير برسم السياسات العامة التي تتلاءم مع التحديات التي تواجه العالم بمجمله وتحديد معالم المخاطر التي ستنجم عن أي تحديات نتيجة تبني أي سياسات خاطئة.
لذلك في تقديري أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لن يكون مستقبلاً هو ذلك البيزنس مان دونالد ترامب ، لا بل لربما ستتغير أفكاره السياسية بسرعة مع مرور الزمن واكتسابه الخبرة السياسية إلى جانب خبرته في عالم المال والتجارة، لتتطور حتى تكون أكثر واقعية وملائمة مع التحديات التي تواجه العالم، خاصة بعد أن يعيش أجواء مسؤوليات رجل الدولة العظمى التي تقود العالم سياسياً واقتصاديا وأمنياً وعسكرياً.
كما أنه في تقديري سيدرك بأن المناكفات التي برزت خلال حملته الانتخابية لن تجد طريقها للنجاح أمام التحديات التي تواجه العالم ، كون أن هذه الأجندات والأفكار مورست بشكل مشابه من حكومات دول أخرى في العالم، وواجهت تلك الحكومات صعوبات داخلية وخارجية جمى في تطبيقها لا بل كانت سبباً بأنها لم تساعدها في المحافظة على الاستمرار في نهجها طويلاً وكانت النتيجة دائماً خسارة مدوية للحكم في أي انتخابات ديموقراطية لاحقة!.
لا شك أن الكثيرين يرون في تبني شعار "أميركا أولاً"، بأنه شعار مثير للقلق والاستفزاز لا بل سبباً لإثارة الهلع في سياق مفاهيمهم التي اعتمدت التبعية نهجاً ، كون أن أميركا هي الدولة العظمى التي تقود العالم عملياً، وكأن هذا الشعار جديد ولم يكن قائماً بالفعل من قبل على مدى مراحل بناء الولايات المتحدة التي حكمها 44 رئيس أميركي سبقوا الرئيس دونالد ترامب بتطبيق شعار أميركا أولاً!، ولكن بالمقابل هناك تجاهل مبني على الأنانية الدولية ، حيث السؤال الذي يطرح نفسه هو من هي الحكومة التي لا تتعاطى بمفهوم "مصالح بلادها أولاً"؟!.
لذلك لا أجد مبرراً لهذه الحالة الهستيرية التي تجتاح العالم بدون الانتظار لرؤية النهج الذي ستسلكه إدارة الرئيس دونالد ترامب ، والعمل على بناء جسور معها لا التصادم معها ، وهو الذي من حقه أن يعبر عن فكره كيفما أراد خاصةً في دولة مؤسسات يحكمها القانون وتعد هي الراعي الأول لفكر الديمقراطية في العالم ، كما من حقه أن يرفع شعار بأن مصالح بلاده أولا ، وأن يعتمد أفكاره المستقلة ورؤيته الخاصة كرئيس، وأن يجتهد لتطبيقها في سياق ما يتلاءم معها من تحديات ومع متطلبات الحفاظ على استقرار العالم ، حيث لوحظ بأنه يملك الكثير من الإمكانيات التي تؤهله لهذه المكانة وإلا لما وصل إليها!، لا بل كان مذهلاً وهو يمارس مشاعره الإنسانية وانضباطا مهنياً يليق بمكانة الرئيس بشكل طبيعي جداً بعد مراسم حفل التنصيب ولم يكن هناك ما هو غير مألوف من تصرفات تشير إلى غير ذلك .
كل هذه المفاهيم وتلك التحديات لن تترك أمام الرئيس دونالد ترامب مجالاً لتجاهل هذه الحقيقة ومتطلبات الحفاظ عليها ، ومع ذلك فإن الشيء الوحيد الذي لم أستطع تفسيره هو إقحام الإسلام والمسلمين من خلال القراءة الشمولية لتصريحاته المتعلقة بتوجهه لمحاربة الإرهاب الذي حدده بوضوح بأنه محصور بالتطرف الإسلامي وبالتحديد في تنظيم الدولة الإسلامية داعش التي تسبب الإرهاب الذي تمارسه بخراب ودمار دول بأكملها وتشريد شعوب بالكامل ، بالرغم من الإدراك بأن هذا أمر لا يختلف معه أحد من الدول العربية والإسلامية التي تجد في الواقع بأن الإرهاب الناجم عن هذا التطرف يستهدف استقرارها ووحدتها وأمنها واقتصادها أيضاً قبل أن يستهدف الآخرين.
لذلك فأنني أرى أن هذا الأمر بالرغم من أنه يعد إخفاقاً من طرف الرئيس دونالد ترامب في إيصال رسالة واضحة لطمأنة دول العالم الإسلامي بأنها لن تكون مستهدفة مستقبلاً لا بل هي شريكة وحليفة في العمل على استقرار هذا العالم في ظل هذه التحديات التي تجتاحه ، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة التسليم بفكرة أنه كان يقصد نيته التوجه لمحاربة الإسلام كدين أو هناك إمكانية لعزل المسلمين كأصحاب ديانة ، كون أن هذا الأمر له عواقبه ومخاطره السياسية الكونية التي ستدفع لفتح باب الصراع بين الثقافات والحضارات على مصراعيه، وهذا أمر لا يمكن للمؤسسات الأمريكية أو لدول العالم الأخرى ذات النفوذ والخبرة أن تقبل به، كونه سيحمل عواقب وخيمة ومدمرة.
أخيراً، في تقديري، أن من يتبنى فكرة ان مصالح بلاده هي أولاً ، هو في الحقيقة يتمتع بقمة المصداقية والانتماء لبلاده ، ويدرك بأن الأمانة الوطنية تملي عليه بأن مصالح بلاده فوق أي اعتبار وهذا أمر لا يعيبه بل سيرفع من قدره إن بقي يتحدث بلسان واحد يتمتع بالمصداقية، وسيسجل مستوى عالي من تحقيق الإنجازات الذي لا يمكن الوصل إليه من خلال سياسة الانعزال عن الآخرين، بل يتم من خلال سياسة الانفتاح وخلق أسس شراكة تحافظ على السلم العالمي وتحقيق العدالة وضمان المصالح التبادلية بين بلاده ودول العالم!