الانفكاك عن قطبي الثنائية والأصولية ...مهند عبد الحميد

الثلاثاء 20 ديسمبر 2016 08:42 ص / بتوقيت القدس +2GMT



 

يعيش الشعب السوري مأساة قل نظيرها، يختلط فيها المحاربون من كل الأصناف وبالوكالة، يقاتلون من أجل مصالحهم، ولا يوجد من بين كل المصالح اي اعتبار لحقوق الشعب السوري وفي مقدمتها الحق في الحياة. الكل يدفع من رصيد الشعب السوري، فلا يكترثون لموت أكثر من 400 ألف مواطن، وتهجير وتشريد حوالي 8 ملايين خارج وداخل سورية، وممارسة أشكال من التطهير المذهبي في العديد من الأحياء والبلدات، وتدمير أجزاء من المدن والبلدات والبنية التحتية، تشير الأرقام إلى أن 10 ملايين فقدوا منازلهم، عدا عن الجرحى والمعوقين والمفقودين والمعتقلين، وعدا عن الوضع الاقتصادي المتهاوي. البعض ينكر المأساة ولا يعترف بالأرقام والمعطيات والصور والأفلام ويعتبرها مزورة بما في ذلك أرقام وتقارير الأمم المتحدة وتقارير المرصد السوري لحقوق الإنسان. 
معركة حلب كشفت عن إسقاط البعد الإنساني والأخلاقي في الصراع، حين أظهر كثيرون اغتباطهم بانتصار نظام الاسد على أشلاء الأبرياء وعلى أنقاض حلب الشرقية، ولم يتوقفوا عند إجلاء السكان المتبقين من أهالي المدينة في ما يشبه تطهيراً طائفياً. وكان نظام الأسد وحلفاؤه قد رفضوا العرض الذي قدمه المندوب الدولي ميستورا ويقضي بخروج المقاتلين وبقاء المواطنين في أماكنهم يديرون حياتهم المدنية ايذاناً بانتهاء الحرب في هذه المدينة. التغيير السكاني على أساس طائفي حدث في حمص والزبداني والقصير وداريا ومعظمية الشام وخان الشيح وقدسيا والهامة وغيرها من المدن والبلدات السورية، ويحدث الآن في حلب. التغيير الديمغرافي له صلة بتغول المليشيات الطائفية بين قطبي الصراع، ففي الوقت الذي ترتكب فيه داعش والنصرة وحركة نور الدين زنكي وأحرار الشام وجيش الإسلام وغيرها من القوى المتطرفة جرائم بما في ذلك حصار وتجويع بلدات شيعية وعلوية على خلفية طائفية، يتوفر في الجهة الأخرى من الصراع مليشيات طائفية شيعية عراقية وباكستانية وأفغانية ولبنانية مضافا إليها الحرس الثوري الإيراني وشبيحة النظام، هؤلاء الذين انخرطوا في القتال على خلفية التعبئة الطائفية التي ليس أقلها حماية العتبات المقدسة، وارتكبوا الجرائم على خلفية طائفية. 
إن تجاهل حق مئات الآلاف في الحياة وتجاهل موتهم وإذلالهم وقهرهم وارتكاب المجازر بحقهم، لا يمكن تبريره بوجود تنظيم النصرة ومجموعات إرهابية بينهم، التجاهل هو انحياز لقتلة آخرين من دول وميليشيات قاموا بتدمير المستشفيات والدفاع المدني والأفران والمدارس والبنية التحتية لمدينة حلب، هو تبنٍ لمنطق الذين قصفوا المظاهرات السلمية بدعوى وجود تكفيريين ومندسين في صفوفهم منذ بداية الثورة السلمية. كثيرون قلبوا المعادلة وفرَّطوا بواجبهم الإنساني والأخلاقي في حماية المدنيين وتجاهلوا معاناتهم ولم يرفعوا الصوت عاليا من أجل إنقاذهم وهم يموتون ويروعون. هذا الموقف يتناقض مع حقوق الإنسان واتفاقات جنيف ومع الأخلاق. إن الدفاع عن الأبرياء مبدأ غير قابل للمقايضة والاشتراطات، ولا يساوي طلب حمايتهم وإنقاذهم الانحياز لقتلة وإرهابيين يتواجدون بينهم. إن هذا يشبه قتل ركاب طائرة مختطفة لأن بينهم إرهابياً، ويشبه قتل مئات من رواد مسرح لأن إرهابيين قاموا باحتجازهم، ويشبه تدمير مدرسة مليئة بأبرياء بذريعة إطلاق صاروخ قربها، كل هذا النوع من القتل جرائم بحق الإنسانية. الحرب ضد الإرهاب لا تكون أبداً بالإرهاب، وإرهاب الدولة أشد فتكاً من إرهاب الجماعات والأفراد، بناء عليه لن تكون المفاضلة بين إرهاب اكثر وإرهاب أقل، الإرهاب والحرب على الإرهاب ثنائية دفع وما يزال الشعب السوري يدفع ثمنها، إنها الثنائية ذاتها التي ينطلق أصحابها من المفاضلة بين المعسكر الأميركي التركي السعودي المعادي فعلا لتحرر الشعب السوري، وقد استقوى بالإرهاب وفصائله لقطع الطريق على الثورة السلمية الشعبية، وبين المعسكر الروسي الإيراني الداعم لنظام ديكتاتوري لم تهتز له شعرة جراء مأساة الشعب السوري. أصحاب الثنائية لا يقبلون موقفاً ثالثاً ضد القطبين، لأنهم مع قطب روسيا وإيران والنظام ولا يستطيعون تخيل طرف ضد القطبين ومنحاز للشعب السوري ومصالحه، ويدعو لإنقاذه من الإرهاب وإرهاب الدولة ومن المذهبية والتعصب الطائفي ومن التدخلين الأميركي والروسي. لا يتخيلون وجود سوريين مستقلين ويتبنون موقفا مناهضا للقطبين، لا يتخيلون وجود معارضين ومقاتلين من أجل الحرية نقيضاً للنصرة و"داعش" وكل التعصبيين، لا يتخيلون وجود شعراء وأدباء وفنانين وإعلاميين وحقوقيين وعمال وشبيبة ونسويات ومناضلين كابدوا قمع النظام سنوات طويلة لأنهم ينشدون الحرية لشعبهم ويطالبون بالديمقراطية ويرفضون استمرار تَحَكُم الطغمة الأمنية الاقتصادية السياسية بمصير شعب إلى الأبد. 
الانحياز للطغمة يأتي مرة في صيغة الدفاع عن ضرورة بقاء الدولة السورية ووحدة الوطن السوري وإفشال المؤامرة، متجاهلين أن الطغمة فتحت كل أبواب البلد للمؤامرة والمتآمرين وحولت الدولة إلى سلطة قامعة وحولت المواطنين الى رعية، ودمرت البلد لمجرد سماعها مطالب الحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية على لسان مواطنيها. تجاهل المدافعون عن الطغمة باسم الحفاظ على الدولة ووحدة سورية، أن دمار البلد وموت وتهجير وتشريد أجزاء أساسية من الشعب لم يرف جفن الدولة التي يريدون لها البقاء. وتجاهلوا عدم تحسس الدولة لموت أطفال تحت الأنقاض ولم تشعر بأي مسؤولية تجاه عذابات السوريين. بالأمس استقال مسؤولون تونسيون بسبب اغتيال مهندس تونسي، هذا الصنف من المسؤولين الذين استقالوا يستحق كل الاحترام حين تحملوا المسؤولية بشجاعة واستقالوا. مقابل صنف آخر من المسؤولين السوريين الذين شاهدوا سورية تحترق على مدار 6 سنوات ولم يحركوا ساكنا ولم يتحسسوا لمعاناة ومأساة شعبهم. 
الآن، انتهت جولة مهمة من الصراع الدموي ولا يوجد في الأفق حل سياسي، والحسم العسكري لن يقود إلى حل سياسي. ما يهم فك ارتباط المعارضة السورية الوطنية الديمقراطية عن التنظيمات الأصولية الدينية التي تعتمد منطق الحل العسكري والسيطرة الأحادية على المجتمع والدولة حلا وحيدا. التنظيمات الأصولية وداعموها قامروا بمصير مدن وبلدات ووضعوها تحت رحمة الصواريخ والبراميل والقنابل الفراغية. هذه التنظيمات ومنذ دخولها الى الصراع لعبت دور الثورة المضادة. المعارضة السورية أمام تحد كبير وخيارات حادة، إما الانجرار لاستكمال المقامرة بمصير الشعب السوري وفي هذه الحالة لن تكون نتائج المعارك في المواقع المتبقية أفضل حالا من حلب. وإما الانفكاك عن القوى الأصولية وإعادة الاستقطاب بخيار مستقل ثالث بعيدا عن قطبي الثنائية. ذلك الخيار الذي يحمل أملا بتحقيق مطالب الحرية والديمقراطية والكرامة، بدعم شعبي عربي وعالمي.
Mohanned_t@yahoo.com