لاشك، أننا نعيش أحداثاً وتطورات توحي بمعالم تحول هيكلي وأيديولوجي في النظام الدولي الذي أصبحت أركانه خاضعة للجدل بعد ما يقارب ثلاثة عقود من الزمن أثر انهيار الكتلة الشرقية، وقد بات ذلك واضحاً لمعظم الباحثين في مسار العلاقات الدولية، ولأن الأزمات سواء كانت دولية أو إقليمية هي التي تضع مراحل انتقال النظام الدولي "من وإلى" على طاولة النقاش، فيبدو أن منطقة الشرق الأوسط عموماً والأزمة السورية وما تخضع له من تدخلات أطراف دولية وإقليمية على وجه الخصوص تشكل مؤشر على هذا الجدل تجاه هذا التحول.
ولأن تركيا اليوم إحدى القوى الصاعدة والمؤثرة والمتداخلة في الأزمة السورية، والساعية أيضاً لتحصيل مكانة دولية لائقة، فالتحولات الكبرى التّي عرفتها السياسة الخارجية التركية خلال السنوات القليلة الماضية ليست وليدة الأوضاع في سوريا، أو في دول ما يسمى بالربيع العربي، أو "طموح وتمنيات" أردوغان وحكوماته المتعاقبة، بل هي إرادة قديمة منذ فترة "أوزيل" في ثمانينات القرن الماضي، بهدف الارتقاء بتركيا إلى مصاف الكبار ،بدلاً من دور الدولة الوظيفية في منظومة الفكر الغربي أبان الحرب الباردة.
تدرك تركيا، أن شعور دولة ما بضرورة لعبها دور إقليمي معين وتوجيه قدراتها للتحول إلى دولة إقليمية حقّة، يستدعي ضرورة استحضار قواعد دولية بديهية كنتيجة حتمية لرغبة هذه الدولة في لعب هذا الدور، ولعّل أهمها ذلك الخوف الذّي يثيره هذا الصعود في سيكولوجية الجيران، لاسيما منهم المنافسين في هذا الإقليم المعقد، إيران، السعودية، مصر، إسرائيل، روسيا، بالإضافة إلى الولايات المتحدة التّي دخلت منافسة جيوبوليتيكية جديدة مع روسيا جعلت منهم مساهمين فاعلين في صنع هذه التوازنات في المنطقة مرة أخرى. توازنات أخذت مكانها بشكل حاسم مع وصول الحرب السورية ذروتها هذه الأيام، حيث شكلت هذه الحرب تحوّلا مهما في ترسيخ هذه التوازنات، وصنع اصطفافات واضحة، قوّضت الطموح التركي الذّي رسمه مهندس السياسية الخارجية "داود أوغلو" مع بداية هذه الأزمة السورية.
فالأطراف المنافسة في الطرف الآخر من الميزان، نجحت إلى حدّ ما في تحجيم التأثير التركي في سوريا، فلم تكن مهمة تصفير المشكلات مع الجيران بالمهمة السلسة، ابتداءً بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل بعد أزمة سفينة مرمرة عام 2010، والمعضلة مع النظام السوري منذ عام 2012، والقطيعة مع مصر بعد ثورة يونيو عام 2013، وتعطل مسار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وأخيراً تأزم العلاقات التركية-الروسية نتيجة اسقاط الطائرة الروسية، كل ذلك يأتي مع استمرار الدعم الأمريكي للأكراد في سوريا.
ولعل إدراك تركيا من جديد أن كثرة المشاكل والأعداء لن يخلق حالة تستطيع تركيا من خلالها تحقيق طموحها وأمنياتها الإقليمية، فبدأت بسلسلة مصالحات مع إسرائيل وبعدها روسيا وإيران وربما مصر مستقبلاً، تحت تبرير أن تركيا بحاجة ماسة اليوم إلى استقرار إقليمي وعلاقات ودية مع الجميع. وأن الأتراك غير قادرين على الاعتماد على الأمريكان أو حلف الناتو في حماية أمنهم القومي، كما ادركوا جيدا أن استمرار توتر العلاقات مع الروس وحلفاءهم الإيرانيين من شأنه أن يُبقي تركيا في حالة عزلة تضعف من قوتها على المدى المتوسط والبعيد في الوقت الذّي يدير فيه الأوروبيون ظهورهم للأتراك بغلقهم عضوية النادي الأوروبي أمامهم.
واليوم، وبالعودة للدور التركي في سوريا، والتي سعت من خلاله تركيا للعب دور اللاعب الأساسي المؤثر في الأحداث واتجاهاتها، أخذت السياسة الخارجية التركية عدة تقلبات ما بين علاقات جيدة ومميزة مع سوريا ما قبل 2011، إلى علاقات متوترة وقائمة على أساس ضرورة رحيل نظام الأسد، وصولاً إلى اليوم بعدم المطالبة برحيل الأسد كشرط مسبق، وهو ما يوحي أن تركيا تدرك جيداً أن مصالحها هي التي تحدد علاقاتها الإقليمية والدولية، وأن الغرب قد خذلها فيما تسعى لتحقيقه من طموح ودور إقليمي، وأن وجودها داخل اللعبة في ظل وجود روسي أعاد رسم الخارطة من جديد في صالح النظام السوري يتطلب منها الاختيار الجيد أين تقف، وأن انفتاحها على قوى المعارضة للنظام في سوريا عبر تزويدها بالسلاح والعتاد، وكذلك بسماحها للأطراف الارهابية بالانتقال من أوروبا إلى العراق وسوريا لن ولم يحقق لها شيئاً إلا انقلاب السحر على الساحر وأصبح هذا الإرهاب يضربها في عقر دارها.
الطموح التركي مشروع لدولة كانت في يوم ما إمبراطورية ذات حدود شاسعة، ولكنها لا تعيش في فراغ المنافسين، وهناك شروط لا تتعلق بتاريخ الأجداد أو بإعادة حكم السلطان أو بغرور التأييد الشعبي أو بالعمل على تفتيت الدول المجاورة.


