ها نحن قليلا قليلا، أياما معدودات، نقترب من خط النهاية في الطريق الى المؤتمر الدولي للسلام، بعد ان زال الغبش وانمحت الشكوك واتضحت الرؤية، وقام الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بنفسه بتوجيه الدعوة للرئيس أبو مازن وبنيامين نتنياهو، الى قمة يعقدانها بعد إتمام عقد المؤتمر. وقامت باريس بتوجيه الدعوة الى سبعين دولة للمشاركة في هذه التظاهرة الدولية تحت سقف هذا المؤتمر. "لقد القي بالنرد اذن" عبارة يوليوس قيصر الشهيرة والتي تفيد عدم التراجع.
والذي حدث في هذه الأيام بل الأمتار الأخيرة في الطريق الى المؤتمر، ربما يوضح لنا اكثر النتائج او المخرجات السياسية المتوقعة من المؤتمر، وفيما يلي الإشارة الى هذه العلامات بالقرب من هذا المنحنى الأخير:
أولا : الإصرار الفرنسي بحد ذاته على عقد المؤتمر في موعده قبل نهاية العام ،رغم الضغوط التي مارستها إسرائيل، بل رغم الرفض الإسرائيلي الواضح لعقد المؤتمر. وثانيا: رغم الانشغال الفرنسي الداخلي في الانتخابات الجارية داخل معسكر اليمين واليسار، تمهيدا للانتخاباتالرئاسية في اّيار القادم، أي بعد خمسة شهور واحتدام هذا الصراح الحاد داخل فرنسا، والذي يستقطب جل اهتمام الرأي العام وترافق مع احداث دراماتيكية ليس اقلها اعلان الرئيس الفرنسي راعي المؤتمر عدم ترشحه للانتخابات القادمة، في سابقة غير معهودة يقدم على اتخاذ هكذا موقف رئيس فرنسي وهو في سدة الحكم. وتقديم رئيس وزرائه مانويل فالس استقالته استعدادا لترشحه للرئاسة عن الحزب الاشتراكي.
هل كان الإصرار على عقد المؤتمر في موعده جزءا اذا من هذا الصراع او السجال والاستقطاب الذي يتجاوز فرنسا ليشمل أوروبا بقضها وقضيضها في تصدي اليسار الليبرالي، او ما يمكن تسميته هنا الاعتدال الأوروبي السياسي والتقليدي، لموجة اليمين المتطرف؟ عدوى الانقلاب الذي حدث في أميركا مع انتخاب دونالد ترامب؟ خشية أوروبا وحيث فرنسا التي تلعب دورا قياديا في توجيه سياساتها من عودة اليمين الأيديولوجي المتطرف ليطل برأسه من جديد، كما حدث في الحقبة المشؤومة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية؟.
او هل نرى الى ذلك في اطار التدافع لوراثة التركة الأميركية وملء الفراغ الذي يخلفه الاّن، ما يبدو انسحابا أميركيا من الشرق الأوسط في انقلاب نادر يحدث مرة أخرى، منذ ما يسمى بأزمة السويس عام 1956، حين كانت أميركا تستعد لوراثة فرنسا وبريطانيا. واذا صح هذا التحليل الا يكون عندئذ من المنطقي والواقعي إيجاد هذا الرابط في التزامن بين توجيه فرنسا الدعوة لعقد المؤتمر الدولي للسلام، بينما تذهب رئيسة الوزراء البريطانية الى الخليج للمشاركة في قمة مجلس التعاون الخليجي.
وهل الماضي يمكن له ان يضفي شيئا على هذا الربط قدرا من دلالة تاريخية، اذا تذكرنا انه في غضون النقاشات التي جرت بين سايكس وبيكو فقد كان الإصرار الفرنسي في سياق كل هذه النقاشات ينصب على المطالبة بان تكون فلسطين جزءا من النفوذ الفرنسي، تماشيا او انسجاما مع الادعاء الفرنسي في حينه من ان فرنسا هي الوصية على الأماكن المسيحية المقدسة وحامية المسيحيين الكاثوليك حول العالم. وهكذا تذهب بريطانيا الى دول الخليج لتقول لهم في مناطق نفوذها القديمة " ان امنكم من امننا"، بعد ان لوح ترامب ان لا شيء مجانا وان أميركا مقابل ضمان امن الخليج تريد ثمنا مقابل عدا ونقدا. بينما توجه فرنسا في الوقت نفسه رسالة صارمة الى إسرائيل، من ان الدعوة الى حضور نتنياهو هي بعد انهاء المؤتمر اعماله من اجل المصادقة على قراراته ومخرجاته بما يشي ان قرارات المؤتمر نافذة.
التصريحات أيضا غير المسبوقة لوزير الخارجية الأميركي جون كيري والتي لم تقل من قبل على لسان أي متحدث اميركي، بحدة اللفظ او حتى التهديد المبطن والصريح لبنيامين نتنياهو وجماعته. ومؤدى هذه التصريحات ليس فقط ان كيري وضع فيها النقاط على الحروف كما يقال، في معرض ادانته الشديدة لموقف إسرائيل من عملية السلام ورفضها حل الدولتين، ولكنه لوح امام إسرائيل بالخيار اما دولة ابرتهايد اذا واصلتم هذا النهج او حل الدولتين، لا خيار ثالث.
لننظر اذن الى أهمية ومغزى هذا الخطاب في توقيته، لأن كلمة السر هنا في الرسالة التي يوجهها هذا الخطاب هي التوقيت. وهو توقيت عند الوقت الأخير، لانتهاء ولاية أوباما وكيري، وفي حمأة الانخراط الأميركي في ازمة حلب السورية مع روسيا، ما يعني في التحليل جواز طرح السؤال ان كان هذا الخطاب يمهد الأجواء لاتخاذ موقف اميركي ما قبل انهاء ولاية أوباما وكيري؟ موقف دراماتيكي لطالما لوح به على نحو غامض أوباما، واعرب نتنياهو عن مخاوفه منه. وربما يتجاوز هذا الموقف حدود المشاركة الاميركية في المؤتمر الدولي.
واذا ربطنا بين الموقف الذي عبر عنه كيري وسلسلة أخرى من المواقف صدرت عن دونالد ترامب نفسه، وأخرى عن الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر الذي دعا أوباما صراحة الاعتراف بالدولة الفلسطينية قبيل مغادرته البيت الأبيض، لان هذا هو الحل. وحتى الكلام الذي صدر عن دينس روس مبعوث الإدارة الأسبق الى عملية السلام في المقال الذي نشره الأسبوع قبل الماضي في الواشنطن بوست، وقال فيه انه ليس من المستبعد ان يفاجئ ترامب العالم بالتوصل الى حل لانهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فقد نكون بإزاء يقظة غير مسبوقة في المناخ السياسي الأميركي العام، تجاه هذا الصراع يؤشر الى تحول عميق في الموقف الأميركي ،وهو مؤشر قد نرى الى ابعاده في الموقف اللافت الذي صدر عن ترامب حين أشار الى امكانية تكليف صهره زوج ابنته بهذه المهمة، أي ان يكون مبعوثه الى الوساطة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
نقل عن نتنياهو انه رد على دعوةالرئيس الفرنسي له انه مستعد فقط للحضور الى باريس ومقابلة الرئيس أبو مازن، اذا الغى الرئيس هولاند المؤتمر الدولي وهذا يعني ان الرجل اتخذ قراره بالتحدي، تحدي العالم. ولكن نقل عنه في الأيام الأخيرة الماضية نفسها قوله أيضا فيما يعكس تصريحه لأول مرة عن حقيقة ارتعاد فرائصه من محكمة الجنايات الدولية، حين حذر وزراء حكومته وتحديدا نفتالي بينيت من اقرارهم المصادقة على طرح قانون تبييض المستوطنات، التي يسمونها بغير شرعية. "لأن ذلك من شأنه ان يجلبنا جميعا الى محكمة الجنايات الدولية".
والإشارة هنا انه لم يبق أحدا من المتحدثين باسم الأمم المتحدة ومجلس حقوق الانسان الدولي، الى الإدارة الأميركية والمانيا والاتحاد الأوروبي، لم يقل العبارة التي يتفق الجميع عليها والمقصود استخدامها بان ذلك أي المصادقة على هذا القانون يخالف القانون الدولي. وانه يعرض إسرائيل للمسائلة وعقوبات قاسية الى حد ان إدارة أوباما نصحتهم بتعديله. اما افيغدور ليبرمان فقد طالب بتأجيل طرحه الى حين تسلم ترامب رسميا الحكم "لنرى ماهو موقف الرجل".
من نعتمد اذا ، نتنياهو المتحدي لفرنسا والعالم في موضوع المؤتمر الدولي؟ ام نتنياهو المذعور من هذا العالم نفسه في قضية محكمة الجنايات الدولية؟ على خلفية شرعنة حكومته للاستيطان الذي يرى اليه العالم تهديدا لحل الدولتين والسلام معا. سوف نرى في الأيام القادمة ان كان المثل الفرنسي "ان الحمير وحدها هي من لا تغير رأيها" المثل الذي كان يردده دايان، ولكن المؤكد ان المؤتمر الدولي سيعقد يوم الواحد والعشرين من هذا الشهر، فيما إسرائيل تمر باسوا عزلة وإدانة دولية لها لم يسبق لها مثيل. وهذا الوضع يوازي هزيمة ساحقة في حرب تشبه هزيمة العرب في العام 1967.
وفي الخلاصة فأننا نذهب نحن الفلسطينيون الى هذا المؤتمر الدولي من اجل تحقيق السلام، أي إعادة بعث دولة فلسطين الى الوجود في ظل انقلاب راديكالي في البيئة الاستراتيجية للصراع، انقلاب قوامه نبذ الاحتلال الإسرائيلي والاجماع حول فلسطين، وتفكيك تحالفات إسرائيل التاريخية والاستراتيجية لأول مرة، ونجاح الاستراتيجية الفلسطينية المضادة بتدويل الصراع، وصولا الى إقامة الدولة وانهاء الاحتلال العام 2017. وان هذا هو التحول الكبير وربما التغير الأهم على محور هذا الصراع الذي يحدث منذ العام 1948، وهذه النتيجة اذا تكللت بالنجاح فانها إقرار بجدارة استراتيجية مركبة قادها رجلان عرفات وأبو مازن، وثمرة صمود باهر ومذهل وعنيد لشعب رفض الاستسلام واستطاع قهر المستحيل.


